صيف في مكتبة
فتحية الفجرية
في عصر يوم ضوء شمسه خافت، ذهبت برفقة فرح إلى مكان عملها في سوق الولاية القديم، باحثة عن عمل يناسبني أقضي فيه الصيف والخوض في تجربة هي الأولى من نوعها في تلك الفترة كنت قد أنهيت دراستي حينها، عند وصولنا والتجول بين أروقة مكان عمل فرح وصديقاتها والحديث الشيق معهن، تمعنت في السوق القديم والسكة العتيقة والدكاكين المتضوعة بالفضيات والذهب والعصي والكثير، لفتني في تلك السكة دكان صغير جداً لعجوز شوّه الدهر أوصافه، يبيع الأدوية والبهارات والأصباغ القديمة والزئبق والسواك وكل ما عتى عليه الزمن من أدوات لتلك الحقبة الزمنية الغابرة، منازل ومباني عتيقة قد امتصت ملوحة البحر رونقها وبهائها، وعلى إرتفاع قليل يتراءى لك حصن أثري ولى عصره الذهبي، مطل على لازورد المحيط، كلما ولجت إليه يختلجك شعور الأسرار الملغزة والأحاجي، ويعيدك إلى أحداث مجده التليد.
كان الضباب الكثيف والحار يصعد من الميناء يلثم المكان بأكمله يحيل المارة إلى طيوف وأشباح خارجة من مقبرة منسية، حياة فوارة تمور في الميناء ذو البناية الرمادية، سفن وبواخر تمخر عباب البحر الدافئ وكاسر أمواج خشبي مثبت بإسطوانات ذات قباب، ومياه تتموج كالنبيذ المسكوب، سلم خشبي ذو هندسة فريدة من نوعها تلاطفه الموجات الراقصة بخفه لتحدث به صرير كالمنجور مع حركة الموجة مما يأخذك يمنة ويسرة كما أرادت له الموجة العاشقة، تنزل من خلاله لتصل إلى القوارب، ويمكنك أيضاً المكوث لتتلمس البحر وتشتم عبقه عن قرب، لكن عليك أن تكون حذراً من الانزلاق فسقوطك محتوم بلا شك فلا حاجز هناك.
بعد الإبحار في كل تلك التفاصيل أيقظني صوت رفاق فرح، وأجدهن يحدقن بي ويخبرنني عن وجود مكتبة بالقرب من المكان، أصحابها غير متفرغين بسبب ارتباطهم ومسؤولياتهم التي زادت، ويبحثون عن أمينة مكتبة وبائعة كتب في نفس الوقت. غمرتني الدهشة والحبور فأخيراً وجدت ما يناسبني؛ مكتبة رائحة الورق، أرفف عناوين مطعمة بالذهب، كتب يومياً أتلمسها وأتذوقها، كان لمجلات ماجد حضور في منزلنا بقصصهم الجميلة المزودة بالرسومات الجذابة، كنا نتردد إلى المكتبات لأجل شرائها، ذهبت في الحال لأزور المكتبة فوجدت صاحب المكتبة، تبادلنا أطراف الحديث في شأن العمل، أخبرني بالمجيء باكراً لتسلم المهمة إن كنت على جاهزية، تسلمت مفاتيح المكتبة من قبل صاحبها الشاب صاحب الهندام المرتب الأنيق.
في أول يوم كان صاحب المكتبة برفقتي لفتح المكتبة، وإخباري عن العمل وآليته، وكيف بإمكاني استلام الصحف والمجلات والقرطاسيات والكتب، وعمل فواتير لها وكيفية استخدام الطابعة وآلة قص الورق العجيبة في تصميمها، واستخدام آلة عمل الملفات ذات الأسنان الحادة كالمنشار وصنع ملفات ذات رولات لولبية ملونة.
أنتابني الخوف في بداية الأمر وترددت، شعرت بعظم المسؤولية وضخامتها، فهذه أول تجربة لي خارج البيت وخوض مغامرة فريدة من نوعها، عمل أكون فيه بمفردي، دخول زبائن من كل الفئات والأصناف؛ إنها مرحلة مهمة إما أن أخوض التجربة أو انسحب..
في اليوم التالي وبعد أن تسلمت المفاتيح المعدنية الضخمة باشرت العمل في الساعة الثامنة صباحا.
كانت المكتبة أشبه ببازار سحري، كان للمكتبة بابان (باب من الفولاذ وبه قفل صنع من الحديد القاسي بحجم كبير كقفل زنزانة بها أخطر رجال المافيا، والباب الآخر من خشب الأرز القوي المطعم بواجهة زجاجية شفافة).
كان الزبائن وأكثرهم من الآباء كل يوم أربعاء من كل أسبوع يأتون لشراء مجلة ماجد لأبنائهم، كانت تغمرني الدهشة وأنا أرى حنوهم وبريق أعينهم في توفير الجمال لأبنائهم وصنع خيالاتهم وتوسيع مداركهم، الآباء يعرفون كل شيء، والصحف ذات العبق المتفرد لا يبقى منها شيء.
كانت الشمس تلمع كل يوم وترجم واجهة المكتبة والمباني من حولها بشظايا الضوء والظل في ذلك السوق المكتض بالمارة، والذي تطوف به الحافلات والسيارات العتيقة والفارهة، كنت كل صباح أصل فيه للمكتبة أجد الصحف والمجلات على مقربة من الباب الزجاجي اللامع، أغرق في رائحة الصحف والمجلات وأتخدر بعبقها، كنت أصطف الصحف والمجلات أمام واجهة المكتبة كل يوم بطريقة تجذب المارة، وأرتب الكتب بطريقة مائلة على الأرفف، استمتع في أحيان كثيرة بالقراءة، وأستقبل القراء بترحاب وابتسامة، أجيب على كل أسئلتهم.
استلام الصحف والمجلات يومياً، وتوثيق كل شيء في دفتر الفواتير الأصفر اللون ذو الورق الرقيق والقابل للتمزق في يديك للحظة، تلمس الطابعة وأزرارها المضيئة وصوتها المألوف وأشعة الضوء المنبعثة من الماسح الضوئي ذو القاعدة الزجاجية وفي أسفلها أدراج لإدخال رزمة من الورق بمقاسين ..
طلاب يترددون لنسخ الملخصات، وشباب شغوف بشراء الكتب، آباء تتردد لنسخ الأوراق الثبوتية فتخرج لهم الأوراق ساخنة كأنها قرص خبز في تنور صنع من قرميد.
حين يركد المكان ويهدأ؛ أتجول بين رفوف المكتبة أنتقي كتاباً لقراءته. صحيح أن المكتبة فقيرة لكونها صغيرة جداً، وحديثة عهد ربما في تلك الفترة؛ لكن فيها كتب قيمة وذات محتوى ثري، ترغمك على الوقوف لبرهة وتذوقها قليلاً.
إلى الآن كلما مررت من ذلك الزقاق الضيق المقفر ورؤية تلك البنايات المتهالكة تعود بي الذاكرة إلى صوت الطابعة وصوت تقليب أوراق الكتب، وصوت الرولات المصنوعة من البلاستيك عند كبسها بواسطة تلك الآلة ذات الأسنان المعدنية اللامعة التي ترى فيها وجهك، لها أسنان كالمشط متناسقة ومصفوفة على نحو مستقيم وبقياس هندسي عالي الدقة وجمال الورق المقوى الملون ذو الزخرفة الريفية..
وصوت آلة قطع الورق التي تشبه السيف في انحنائه ولمعانه وقضمه للورق في سرعة البرق..
وصوت نقر الباب للقادمين من زوار المكتبة..
وصخب المارة بالقرب من المكتبة، وصوت مجنون لإحدى سيارات الفورمولا_1، وصاحبها الشاب الهاوي لسباقات الرالي والسرعة الجنونية ..
و من فرط الدهشة بهذه المكتبة أقول لنفسي أني على موعد مع الدهشه أمام هذه الكتب فستكون متضوعة بالجمل المتحاذقة، واللغة المميزة في السرد، وقع في يدي كتاب وأحسست أنه هو من اختارني لا أنا، لكاتب عماني لا أذكره يقينا، لأن مر على قراءته ربما ثمانية عشر سنة، كتاب يسرد فيه الكاتب عن الأمكنة ويصورها بتصوير رائع، فتراه يسهب في الحديث عن الأمكنة، وعن الشخوص وبدايات المراسلات وقصص الحمام الزاجل، والمدة التي تستغرقها الرسائل، وبداياته في كتابة يومياته وذكرياته في أيام طفولته وبداية الدراسة، فتراه يصف تلك الحقب الزمنية للمدن بتفاصيلها، شعرت بأنني أتجول بين دهاليز وأروقه تلك الأمكنة وعشت في رحابها، كررت قراءته؛ لأنه لامس قلبي وأعجبت بالسرد فيه وعمقه، وقد قيل: ” لا شيء قادر على التأثير في القارئ أكثر من الكتاب الأول الذي يمس قلبه حقاً…
لا يهم حشد الكتب الأخرى التي سوف نقرؤها، ولا عدد العوالم التي نكتشفها..”، يبقى ذلك الكتاب هو الذي ينتشلك من غيابة الجب.
بينما كنت أخرج عائدة للبيت تبدأ الأضواء تطفأ والظلام يبتلع الزقاق تدريجيا، تاركة صخب المكان وزحمته المفرطة.
إلى الآن أجدني أعيش في كل تلك التفاصيل من جديد، كأنها كانت بالأمس.
٣٠_يوليو _٢٠٢٠.