حوارات المدن
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
ثمة مدن تداهمك بالدهشة، وأنت تزورها للمرة الثانية أو الثالثة، وقد تمارس عليك ألاعيب الغواني، فما بالك بمدن تطأها أول مرة، وتكتحل عينك بمكوناتها الإنسانية والمادية، والكثير من الزخرفة والبهرجة، عندها تدرك أنك وفعت في مصيدة الافتتان، وهو إفتتان له ما له، وعليه ما عليه.
ثمة مدن تربكك بداياتها ونهاياتها، وتضعك في امتحان “خارطة الطريق” هذا المصطلح السياسي الجغرافي الاجتماعي التنموي، وأنت تبحث في خارطة الطريق هذه، فإذا بك لم تزل تراوح حركتك في ذات الموقع ، فـ “مسافة الألف ميل” المصطلح الآخر قد لا يسعفك في تقصي الدروب السائرة والآخر الآتية، حيث تضيع منك كل الدروب، وعليك أن تعود أدراجك الى حيث المعلم “جوجل” ليضعك على خارطة طريق أكثر موضوعية، وأكثر معرفية، عندها فقط تجد نفسك تسير وفق مسار “خارطة طريق” أكثر أمنا.
ثمة مدن كبرى؛ كـ “نيويورك” و “واشنطن” بقدر ما تشبع فيك حلم تحقق زيارتك لها، وتغرس فيك هذا الانتصار لأنك تزور مدن كبرى لم تعهدها من قبل، فإذا بها تربكك إلى حد الخوف، وقد توقظ فيك المخاطرة، التي لم تعهدها، لأن تكابر بما عندك من معرفة السؤال “أقلها” لتحقق انتصاراتك الذاتية عليها، وبعدها تعقد معها صفقة حب رابحة، حب مشبوب بالتعجب، والافتتان، والحذر الشديد، فأنت أمام مدن مخيفة، ورهيبة، ومعقدة، ومع ذلك فهي مغرية.
ثمة مدن كبرى؛ كـ “نيويورك” و “واشنطن” واللتان لا تزالان – فوف ما أنجز في هذا الإتجاه عبر أحداث قاسية لا تزال شعوب كثيرة تئن من جراحاتها القاسية – تنسجان خيوط استحكاماتها الأمنية من جهات الكرة الأرضية الأربع، على أثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر “أيلول الأسود” 2001م،تسحب منك بساط المعرفة التي كونتها عنهما قبل زيارتك لهما، فالمدينتان كبيرتان معنى ومبنى، والمدينتان عملاقاتان اتساعا وفهما، والمدينتان مدهشتان حضارة وفنا، فإذا ضمتك “نيويورك” بين دهاليز شوارعها المتقاطعة، وأبنيتها التراثية المهيبة والجميلة، وذات الحداثوية، بعضها، حيث تعانق عنان السماء، فإن “واشنطن” تأخذك إلى حيث الفن الراقي، وإلى التاريخ، المسدل عليه بالنسيان “الاستثناء” إلا في هذه المدينة المزهوة بهذا التميز، حيث تأخذك مجموعة المتاحف المتناثرة ما بين مبنى “الكونجرس” – المهيب – وانتهاء بمبنى “بيت الأبيض” الذائع الصيت؛حيث الرئاسة الأمريكية، التي تشرئب إليها أعناق شعوب العالم كل يوم، في انتظار ما سوف يؤول إليه الغد، هذا العالم المحمول على “كف عفريت” كما يقال.
ثمة مدن كبرى؛ كـ “نيويورك” و “واشنطن” لن يسعفك الزمن المحدود في أجندتك الزمنية التي حددتها لزيارتهما، أو زيارة أحدهما، فما تضمانها بكل ما يثير فيك الدهشة والإنفعال لا يزال كثيرا، وعليك أن تقنع نفسك بضرورة العودة إلى ما حيث أتيت، وإلا سوف تسلبك الزمن، فالمدن الكبيرة، كما هو معروف، بيت للغواية، وإن كانت بعض الغوايات مطلوبة، فالإنسان بطبيعته الخوف من المجهول، حتى وإن كان هذا المجهول له دور كبير من نقله من حالة الاستكانة؛ إلى حالة الإنفعال، والإنفعال عادة لا يأتي إلا من خلال الاصطدام والاندهاش، والتفاعل.
ثمة مدن كبرى كثيرة تضمها كرتنا الأرضية، وكبرها المقصود ليس في اتساع جغرافيتها، أو مبانيها، أو عدد ملايينها البشرية، فثمة مدن أخرى تعيش نفس هذا الاستحقاق، ولكن في زوايا أخرى، وفي عناوين أخرى، لها القدرة أيضا على كتابة صفحات مجيدة في تاريخ – الأمم، فمسقط – الانطلاقة والعودة – حيث الحضن الدافئ والمرسى الآمن تكتب تاريخها المجيد سفيرا للسلام والمحبة، فقيادتها الحكيمة المستنيرة أقنعت صناع القرار في واشنطن أنها القادرة على المساهمة في كتابة التاريخ الناصع للأمن والسلام، وهي بذلك تكتب استحقاقها كمدينة واهبة نفسها لحماية الإنسانية من ويلات الانفعالات الكثيرة التي تتبناها البشرية في بعض مظانها من غير هدى.