قصة انتهت برحيلها ..
فاطمة بنت أحمد البراشدية
في بداية توظيفي كنت في مدرسة العلياء، المدرسة النموذجية بولاية المضيبي .
هناك قابلت خير صحبة وخير معلمات غاليات قائدات وكانت المدرسة تبعد عن محل إقامتي أربعين دقيقة تقريباً..
وبعد مرور عامين بدأ أقاربي بإقناعي بطلب النقل للتقرب ليس إلا ، فمدرسة العلياء عرفت بسياسة إدارتها الحكيمة وبصحبة معلمات وفيات.. بدأت في التفكير في النقل لأي مدرسة فاخترت المدارس الموجودة في نيابة سناو والقرى المجاورة لها من بينها مدرسة الأمجاد..
كنت حينها مترددة جداً في الاختيار الأول للمدرسة التي سأطلب النقل إليها ..
وفي ليلة حالكة بالظلام حائرة الاختيار بين قلمي والدفتر بين الحاسوب والفأرة فإذا بأخت فضلى جاءت لزيارة والدتي دخلت علي وأنا قد أغلقت الحيرة أبوابها أمامي وهي أخت ومعلمة وزميلة وصاحبة ذات حس وذوق رفيع فرأتني في وضعي ذاك.. فقالت ما بك؟ قلت لها أني بصدد طلب النقل إلى مدرسة قريبة ولكن لا أعرف الاختيار الأول فأنا حائرة قالت اطلبي الأمجاد ولن تندمي معلماتها وإدارتها متميزة ورائعة كلهن أسرة واحدة في الشدة والرخاء في العون والمساعدة في الجهد والعمل في كل شيء..
اطمأننت لقولها فطلبت النقل إلى الأمجاد..
ظهرت نتائج النقل فوجدت نفسي في الأمجاد.. دخلت أول يوم دراسي جديد وسلمت على مديرة المدرسة وعرفتها بنفسي فقالت ما شاء الله جميل جدا براشدية أخرى معنا أهلا وسهلا بك سعدت جدا بوجودك..
تعجبت من مقولتها فقلت في نفسي عجبا هل تعرفني؟ أم أنها عرفت معلمات أخريات من نفس قبيلتي وكن سمحات معها.. قلت مرة أخرى لنفسي يا نفس لا تتكبري انتظري فعمان الحبيبة كلها سمحة وقارة بجمالها وروحها الطيبة لكل من يمشي على بساطها ..
خرجت من مكتبها.. ومرت الأيام وإذا بها تكلفني بأعمال عدة أعمال أخرجت مني المعلمة الكاتبة المعلمة التي تصحح الأخطاء من المفردات واللغة المعلمة الجريئة التي تقف دون خوف وقلق تحدث الآخرين..
ماذا أقول عنها وماذا أكتب فكلماتي تبعثرت وابتعد عن قلمي كل حرف بل أضحى قلمي ينتظر الأمر مني ليفوح بحبره معبرا عنها..
غادرت الحياة خفيفة دون كلمة وداع بل حتى إشارة وداع منها لم تعطنا ولم تنبهنا بأنها ستغادر عالمنا وتترك أثرها الطيب النقي الذي لن يمحوه التاريخ لأنها كتبته على جبين قلوبنا بل حفرته بعمق في نفوسنا..
آه ثم آه فقدنا معلمة بل مديرة أختا ومربية وأما عطوفا تلقاها تارة لطيفة وتارة شديدة وتارة ضحوكا تخبرنا عن مواقف مرت بها فأسعدتها..
تمنيت حبيبتي عند سماع خبر وداعك لو لم أدخل الأمجاد ولم أعرفك قط..
سيبكيك كل شبر فيها بل كل ركن وجدار وقلم كل غرفة وكل طفل وكل معلمة وكل حجر كل تربة وباب وسبورة ومكتب..
سيبكيك مكتبك بحرقة لأنك رغم الألم تجلسين على مقعده ورغم التعب والجهد تكتبين على ظهره سيبكيك ذاك الباب الذي طالما أخفى ما بداخله من مواقف لم ترغبِي في معرفتها من الآخرين..
مواقف تعليمية مرت بصحتها..
مرة شعرت بكثرة العمل المنصب على رأسي فذهبت إليها وأنا في شدة الغضب والضيق ودخلت مكتبها وإذا بها جالسة تكتب الأعمال التي أتمت متابعتها والأعمال التي ما زالت لم تتابعها بعد فسلمت عليها وردت علي السلام بكل هدوء بل كانت تبتسم لأنها تعلم ما يجول في خاطري فدار بيننا الحوار التالي : أستاذة ماحد موجود في المدرسة غير معلمات المهارات صح؟!
قالت لا طبعا موجود معلمات كثر والحمد لله قلت حلو أستاذة إذا لماذا كل العمل بهذه المدرسة على راسي قالت أي عمل فاطمة فصمتُّ برهة ثم قلت: أستاذة أذكر أنك أعطيتني نشاطا واحدا كما اتفقنا وأنت الآن وضعتِني في كل الأنشطة..
قالت : أنت حصصك أقل من زميلاتك..
كلمات قليلة عبرت عن الكثير لم أكن أعلم حينها أنه خير لي في كل عمل تطلب مني تنفيذه عرفت بعدها أنها على صواب.. لذلك استمر الجهد والعمل معا فكانت خير عون لي في كل المحن..
مرة سمعت إحدى زميلاتي تقول : أستاذة عائشة حقانية.. لفظة نتداولها ولا يعرف معناها إلا من تعامل معها وأمثالها..
مرة ذهبت إليها وقالت: مابك يا فاطمة قلت: المعذرة لكن أردت سؤالك ماذا أستفيد من تنفيذ كل الأعباء هذه؟ قالت: ستعرفين في المستقبل القريب متأكدة أنك ستكتشفين ذلك دون العودة لطلب الإجابة مني ثم غادرت مكتبها..
هي كعادتها لا تطيل الحديث كثيرا لأنها لا تريد تضييع الوقت لأمر لا يستحق..
وفعلا كل الأعمال التي كنت أشاركها فيها طلبت مني توثيقها في مسابقة الإجادة للمعلمين العمانيين..
وكأن الله قد أودع فيها أحاسيس مرهفة تعينها في أداء وظيفتها..
مرة أعلنت الوزارة عن مسابقة المبادرات للمعلمين ولم أعرف حينها عن تلك المسابقة وبعد أن ترشحت مجموعة من معلمات الأمجاد للتنافس تفاجأت فبعثت لها رسالة قلت فيها : أستاذتي لم أكن أعلم أنك لا تثقين بمعلمات المواد الفردية والمهارية شكرا لك..
تفاجأت من الرسالة لكنها علمت أنني أعاتبها لكونها لم تعلن المسابقة للجميع بل أعلنت لمنسقات المجال وفي المجالات الأساسية فقالت : ماذا لديك من مشروع فقلت : قصص. قالت : إذا لا يصلح مشروعك لتقدميه هذا العام فليس لديك أدلة كافية..
جملة بسيطة جعلت مني معلمة حريصة على توثيق كل ما أقوم به من عمل تجاه مدرستي و طلابي ولولا كلماتها تلك لما فزت بعد عامين في مسابقة المبادرات ليوم المعلم لعام ٢٠١٩ م..
عندما رأت قصصي قالت: الآن حان الوقت لتقدميها للمنافسة في المسابقة.
حينها عاتبتها لماذا لا تساعدينني؟! قالت : لا تستعجلي..
لم أكن أعلم أنها ترتب لي الوقت لتقضيه في مساعدتي ولم أكن أعلم أنها الوحيدة التي تعين معلماتها فبقية الإداريات كما سمعت عنهن أن كل معلمة قدمت مشروعها دون مساعدة من أحد..
كتبتها ونظمتها فبدأتْ مسيرتها في إعادة صياغتها..
كنا نلتقي في يومي الإجازة الأسبوعية الجمعة والسبت من أجل مساعدتي والوقوف بجانبي..
هل من مدير يفعل ذلك؟؟
أخبروني بالله عليكم..
كانت تترك أبناءها وتأتيني لتكمل مسيرتي في هذه المسابقة لم تتركني أبدا حتى جاءت مرة كالطيف الخفيف وتبتسم لي وتقول : فاطمة نصيحة خذيها مني لا تبالغي واكتبي فقط ما قمت به لا تزيدي حرفا واحدا وكلمة واحدة دون العمل بها، فاطمة احرصي على المصداقية ثم المصداقية ثم المصداقية ..
كلمة عبرت عن ألف معنى وضعتها في ذهني فكتبت فقط ما قمت به ولم أزد حرفا ولا كلمة، وعندما رأت وقرأت ما كتبت قالت لي : فاطمة أنا واثقة أنك ستفوزين بإذن الله ..
فعلا عندما فزت اتصلوا بها وبشروها أولا بفوزي فنادتني وقالت : خذي الهاتف وتحدثي فهناك من يطلب الحديث معك.. رفعت سماعة الهاتف فسمعت صوتا يناديني يقول لي : أستاذة فاطمة مبارك لك لقد فزت على مستوى السلطنة..
تركت الهاتف وإذا بها تضحك وتقول : هاه كيف نقول : مبارك فاطمة حينها بكيت وحضنتها وقلت لها بفضل الله ثم بفضلك أستاذتي ياه كم اشتقت لحضنك..
أهديك سلامي يا حبيبة قلبي ومعلمتي..
لن ننسَاك مهما طال الأمد..
ماذا أكتب وماذا أقول وبماذا أعبر؟ أشعر أنك بيننا لازلت معنا وأنت تكافحين وتعاتبيننا عندما نقصر في أعمالنا تعاتبيننا أننا مسؤولون أمام ربنا عما نفعله..
كنت خير معلم ومرشد لنا..
من المواقف الطريفة معها..
مرة تأخرت ومعي مجموعة من المعلمات فوجدناها قد أغلقت باب غرفة البصمة..
بعد نهاية الطابور عاتبناها لماذا أغلقت الباب ابتسمت ونحن في قمة الضيق والغضب وقالت : حتى لا تتأخرن مرة أخرى لأنكن مسؤولات فكانت فعلا كلمة واحدة منها تعبر عن ألف حكاية..
من مقولاتها التي لن ننساها علمتنا أن نكتب عبارة في أذهاننا وعقولناوقلوبنا قبل دفاترنا وتقول : ضعن هذه العبارة نصب أعينكن وهي :
لا فائدة من التعليم إذا لم يكن هناك تعلم..
فعلا صدقتْ مقولتك أستاذتي..
مرة قالت لي كلمة لن أنساها قالت تعجبينني فاطمة تخبريني بكل ما يحمل صدرك علي ولا تخفين شيئا فقلت لها نعم لأني أريد أن أرتاح فضحكت…
ارتاحت نفسي بعد فضفضة كل ما في خاطري ثم غادرتنا ولم تسنح لي الفرصة لتوديعك ولا لأن أقول لك شكرا فنعم المعلمة أنت علمتني وربيتني في صرح عظيم سيشتاق إليك..
شكرا من القلب للتربة التي تعانقك وأقول عطريها وطيبي مضجعها فبها سلكنا سبلا لتحقيق الفوز والنجاح والتقدم والرقي..
نامي فقد طاب محياك وطاب مرقدك وطاب ريحك..
صرت أملا يذكر وعلما يقرأ وكلاما يكتب..
عماننا تفخر بك وترجو لك جنة أعدت للمتقين جعلك الله ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .