التسوّل المتطوّر
بقلم : خميس بن محسن البادي
قال الله تعالى في محكم كتابه:- {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}صدق الله العظيم الآية(39) سورة سبأ..
من واقع الإيمان المطلق بكامل قول الله تعالى في كتابه الطاهر الشريف نستنير بهذه الآية الكريمة كغيرها من سور و آيات القرآن الكريم التي تنير لنا أمور حياتنا كلها، فنؤمن بأن الأرزاق مقسّمة بين العباد بأمره عزّ وجلّ بدرجات متباينة، لذلك فإن ضيق ذات اليد لدى الإنسان و محدودية ملكه و رزقه و هو على هذه البسيطة الفانية ليس بالأمر الشائن كما ليس لوجوده ما يعيبه بين مختلف فئات و شرائح المجتمع، رغم أن الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه و رضي الله عنه نُسبت إليه مقولة(لو كان الفقر رجلاً لقتلته)، و ذلك لما للفقر من التبعات و العواقب الغير محمودة إذا ما تفشى بين عموم المجتمعات، لكن ذلك هو تقدير العزيز العليم بما أراده أن يكون عليه البعض من خلقه لما للأمر من تبعات شرعية أخرى كالزكاة و الصدقة اللتين تولدان التآلف و التحابب و غيرهما من التبعات التي تزيد أجر الخالق للخلق و صبر المحتاج المؤمن على مكابدة حاجته، فهو الذي جلّ في عُلاه يعلم الخبء في السماوات و الأرض فسبحانك ربي ما أعظم شانك، لكن في المقابل حثنا الله عزّ و جلّ بضرورة السعي في مناكب الأرض للابتغاء من فضله و نعمه وآلائه تبارك و تعالى، كما قال سبحانه و تعالى في سورة الملك الآية(15){هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِۦ ۖ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ}صدق الله العظيم.
لكن ما نشهده اليوم للأسف هو الخمول و الكسل بين أقوام من أفراد المجتمع أبناء هذا الوطن المبارك المعطاء، و هم لهم من الطاقة و القوّة وعنفوان الشباب و القدرة ما ليس لغيرهم من الذين نجدهم هنا و هناك و هم يكسبون قوت يومهم بأياديهم المباركة و جباههم تتصبب ندىً و هم الذين بلغوا من الكبر عتيا، في حين آثروا أولئك تعطيل كفاءاتهم و قدراتهم التي أنعم الله بها عليهم فأخذوا يستجدون الآخرين بطرقهم المختلفة و بأساليبهم المغلّفة و بوسائلهم المتنوعة، رغم أن النبي المصطفى صلى الله عليه و سلّم حث على العمل الشريف الذي يغني الإنسان عن مد يده للآخرين بهم أعطوْه أو منعوه، فعن أنس بن مالك قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم من غزوة تبوك فاستقبله سعد بن معاذ الأنصاري، فصافحه النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال له:(ما هذا الذي أكنبت يداك؟ فقال: يا رسول الله أضرب بالمر و المسحاة في نفقة عيالي، قال: فقبل النبي صلى الله عليه و سلم يده و قال: هذه يد مباركة لا تمسها النار أبدا..
و نظير اتكاليتهم و طرق توجههم في كسب معيشتهم فقد واكب بعضهم عصر الحداثة في استجداء الآخرين من خلال تسّوله عبر وسائل المواقع الإلكترونية(تويتر و الواتساب خصوصاً)، بادعائه لحاجته للمال آتياً بمبررات يختلقها من ذاته لتبدو للقارئ مأساة يعانيها هذا المتسوّل، و هو الأمر الذي نجده فعل في غير صالح الوطن و المجتمع لما لهذا الواقع الافتراضي من المتابعين و المشتركين في الداخل و ما وراء الحدود، و ما يشكله ذلك من سمعة غير حسنة لبلادنا و لنا كأبناء لهذا البلد العزيز على قلوبنا جميعاً، أي نعم لا نجحد وجود ذوي الحاجة في كافة المجتمعات و مجتمعنا العماني ضمن مجتمعات العالم، حيث يوجد هنا و هناك بعض المعسرين من بيننا الذين يجب علينا مد يد العون و المساعدة لهم بقدر المستطاع للتخفيف من معاناتهم و لجعلهم يعيشون عيشة كريمة، و لكن في المقابل و لمثل هذه الحالات أوجدت الدولة جهات مختصة أنيط بها تلمّس احتياجات الفئات التي تنطبق عليها المساعدات المقررة التي تقوم بها جهات الاختصاص إلى جانب الفرق الخيرية مع وجود أفراد نذروا أنفسهم للخدمة المجتمعية التطوعية كالأخوين(عبدالله العدوي) و(يوسف الزدجالي) و غيرهما، و هم لا ريب على اتصال و تنسيق مباشرين بينهم و الجهات الرسمية و الفرق الخيرية ذات العلاقة، و لديهم طرقهم الخاصة للوصول إلى كل صاحب حاجة متى ما وصلهم أي بيان بشأن مطلبه، أما أن يأتي أحدهم أو إحداهن و يعرض كل منهما عبر مواقع التواصل الاجتماعي طلب حاجته لمساعدة مالية مسببة بادعاءٍ منه من غير ذي صفة مؤكدة حيال ذلك، و دون أي سابق معرفة و ثقة من مدى مصداقية ما نشره و قاله، فذلك هو الغير مقبول لاعتبارات و أسباب مختلفة منها القانونية و أخرى الاجتماعية، و في ذلك قد يكون ضرر لكلا الطرفين المتبرع و المتلقي بالإستناد إلى تلك الأسباب المعتبرة.
و إن عُمان الخير ممثلة بابنها البار قائدها المفدى – حفظه الله و رعاه- و شعبه الأوفياء الكرام و منذ دهور مضت و شنشنتهم كعمانيين دول بينهم يتوارثونها من السلف للخلف و التي يعلمها القاصي قبل الداني، و المستمد من هذه الشنشنة المروءة و الكرم و الشهامة و إعانة الملهوف، فهم بذلك لا يقهرون يتيماً و لا ينهرون سائلاً و لا يردون طالب حاجة، لأن عُمان بكافة أبنائها البررة كما نعلم بأنهم نسيج متماسك قائم على أسس قوّية و متينة ملؤها الإخاء و المحبة و التعاون و الحمد لله، و لكن حتى يعي المتبرّع بما تجود به أياديه البيضاء و كذلك الجهات المعنية بحقيقة و مسار المال الذي سيدفع، فإنه لا بد من التحقق من المجرى الذي سيسير فيه ذلك السخاء المالي حتى يبلغ منتهاه إلى طالبه المستحق له فعلاً، لا سيما و أن ثمة أمور و أسباب في عصرنا جعلت من الأهمية بمكان إلى تنظيم إجراءات جمع الأموال و التبرعات من الجمهور، و ذلك بما لا يتعارض و نص المادة(299) من قانون الجزاء الصادر بالمرسوم السلطاني رقم(7/2018م)، أضف إلى ذلك و أنت يا صاحب الحاجة المضطر و قد ناديت بحاجتك عبر الموقع الإلكتروني أنه من الوارد جداً أن لا ينظر إلى ندائك بطريقته تلك، للارتياب في حقيقته من جانب ثم لعدم التنبه إليه و الاكتراث به، و بذلك فإن القنوات الرسمية و الخدمات التطوعية و الفرق الخيرية هي الجهات التي يمكنك أن تصل بحاجتك إليها و يصلوا هم بمطلبك إليك مع ما تملكه من أسانيد تعزز مما أنت فيه من هم و كرب فرّج الله عنك، أما بخلاف ذلك فإن حدث طلب الإعانة هذا بالطريقة إياها فقد يعد فاعلها متسوّلاً ينظر إليه بمنظور المتسوّل المتطوّر و لكنه يبقى مخالفاً للمشرّع العماني، كونه مُغْرِضاً استغل هذه التكنولوجيا و التقنيات التي أتيحت للعالم أجمع في غرضه الغير مشروع، و من ثم لا يظن ظان أنه سيكون بمنأى عن الملاحقة القانونية التي تجرم مثل هذه الأفعال، بل من الممكن جداً أن تطاله كيفما و أينما تسوّل فالأولى له أن ينأى بنفسه عن ذلك و أن يشمّر عن ساعد الجد و يكدح لأجل لقمة عيشه كغيره ممن يجدون اللذة في قوتهم الذي جاءهم من جهد تعبهم.
فيا أصحاب الحاجة اتقوا الله في أنفسكم و احفظوا ماء وجهكم و اجعلوا الجاهل يحسبكم أغنياء بالتعفف تتوشحون به وساماً مشعاً على صدوركم تتزينون بزينته الحقة، و اجتنبوا ما قد يعرّضكم للملاحقة و المساءلة القانونيتين، و اتبعوا خطوات الحق و سبيل الرشاد و الطرق المشروعة في مطالبكم و الله رازقكم من حيث لا تحتسبون بإذنه تعالى، و ثقوا أن مجتمعكم لن يخذلكم أبداً و سيقف إلى جانبكم للتخفيف مما تعانونه وفق الضوابط التي نرتجيها جميعاً، و لا يأخذكم اعتقاد من هذا القول بأنه أريد به قطع مساعيكم من إيصال معاناتكم لأصحابها بقدر ما هو توعية لكم بما قُدّر لنا قوله عبر هذه العُجالة لأخذ حذركم مما من شأنه أن يجعلكم تحت طائلة القانون نظير ما يتراءى لنا عبر هذه المواقع من هكذا طلبات، أما أنتم أيها المتكسبون تسوّلاً بذرائعكم المختلقة المختلفة قووا أنفسكم تبعات أفعالكم لتتجنبوا ملاحقاتكم القضائية التي خوّلها القانون ضد ما تقومون به من أفعال شائنة قبيحة، و تذكروا أولاً تحذير النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من هذه المهنة التي نفّر منها بأن لا تكون مهنةً للمرء في حياته، لما لصاحبها من مهانة يفقد فيها كرامته في الدنيا ويسيء بها إلى آخرته، فعن البخاري و مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ).. صدق رسول الله صلى الله عليه و سلّم.
ثم عرّجوا بذاكرتكم إلى ما نصت عليه المادة (297) من قانون الجزاء الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (7/2018م)، و كذلك المادتين (20و21)من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات الصادر بالمرسوم السلطاني رقم(12/2011م)، و لذلك اجتهدوا و اعملوا بشرف يحفظ لكم كرامتكم و يعز لكم إنسانيتكم و يرفع شأنكم و قدركم و اجتنبوا العمل السيء لينجيكم في الدنيا و الآخرة، و اتخذوا من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم سراجاً تستنيرون به لطريق الكسب المشروع الحلال، فقد قال عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم:(ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أنْ يأكلَ من عمَلِ يدِهِ وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ كان يأكلُ من عمَلِ يدِهِ).
و أنتم يا أيها الذين حملتم على عاتقكم لواء الأمانة لخدمة أفراد المجتمع بفئاتكم المختلفة، اعلموا إن ما أنيط بكم و ما رضيتم به من محمل اجتماعي واقع على كاهلكم لا محالة، فإن نداء الواجب يحتم عليكم فتح أبوابكم و سعيكم نحو تلمس احتياجات أهل مجتمعكم حتى تعملوا على ما بوسعكم عمله و تقديمه لهم أو إيصال كلمة مطلبهم إلى من بيده أمر تلبيته لهم، فأنتم الأقرب إليهم في محيط بيئتكم الاجتماعية و عليكم يقع عاتق إنهاء معاناتهم بقدر ما تستطيعون إلى ذلك سبيلا…حفظ الله عُمان و قائدها المفدى و أبنائها الأوفياء..