الإنسان ابن بيئته
زوليخة بابا
يرتبط الشاعر أيما ارتباط ببيئته،فيتشبع بكل شئ فيها،فيصبح كلما أراد تصوير أفكاره ومشاعره ومواقفه يجد نفسه رهينة بيئته،ولهذا فكل ماينتجه الشاعر هو انعكاس لها،ولهذا يتم تداول عبارة الشاعر ابن بيئته،ولعلنا نستحضر هنا قصة علي بن الأجهم مع الخليفة المتوكل حينما أنشده مادحا:
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلواً من كبار الدلاء كثير الذنوب
هنا اتضح للخليفة المتوكل أن ابن الأجهم لايقصد سوءاً،ل كنه خشن اللفظ، ولهذا أمر له ببيت على شاطئ نهر دجلة فمكث فيه مدة ستة أشهر،وحينما عاد إلى الخليفة أنشده ما يلي:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
خليلي ما أحلى الهوى وأمره وأعرفني بالحلو منه وبالمر
حيث يبدو هنا أن الشاعر تغير تماماً أسلوب تصويره وتعبيره عما يجتاح نفسه،وهنا يتضح مدى تأثير ذلك المكان الذي مكث فيه مدة ستة أشهر.
ولعل هذه القصة تؤكد فعلا أن الشاعر ابن بيئته، فبالنسبة لابن الأجهم كانت ستة أشهر كافية ليؤثر فيه ذلك المكان.
أتساءل هنا كم إنسان يمكث في مكان لفترة شهور بل سنوات ولاتؤثر فيه بيئة ذلك المكان، وكم إنسان يثبت العكس،فهناك من لايشبه بيئته، فما حل هذه المعادلة؟
أعتقد أن الإنسان الذي لا تغيره بيئة أخرى ليست أصلاً بيئته يكون قد تشبع مسبقاً بمكونات بيئته وأصبحت لديه مناعة قوية اتجاه أي بيئة أخرى ،ولم يعد بمقدوره أن يصبح كائناً غير الكائن الذي كانه.
أما بالنسبة للذي يقطن في بيئة وتشعر وكأنه لاينتمي إليها فذلك لأن لديه بيئة من الأفكار والمعتقدات مختلفة عن مكونات بيئته ولهذا غالباً ما تعيش هذه الفئة نوعاً من الصراع المرير بين ذاتها وبيئتها لأنها تتمرد على طبيعة و مكنون هذه البيئة.
ولهذا لا أعرف إن كان ينبغي أن يكون الإنسان شبيها بابن الأجهم، أو أن لايكون شبيها لبيئته ويتخذ لنفسه بيئة خاصة من صنع أفكاره وقناعاته،وبالتالي يبدو كل ما يصدر عنه وكأنه لايشبه بيئته فهو ليس انعكاساً لها وإنما يشبه نفسه التي لا أفهم كيف نشأت بمعزل عن تأثيرات هذه البيئة،فالإنسان كائن غريب أحيانا يصعب تفسيره، ولا يخضع لبعض المعادلات الكونية.
لكن يمكن القول أن الإنسان إذا حوصر في بيئة واحدة ويعرف أنه لا يوجد غيرها ولايعرف مؤثرات أخرى،هنا يمكن القول أن الإنسان لابد أن يكون انعكاساً لها لا محال
ولكن اليوم في ظل الكثير من المؤثرات واختلاف البيئات والإعجاب بهذه البيئات المختلفة، هنا يستطيع الإنسان أن ينسلخ عن بيئته التي يشعر أنها لا تمثله، وأنه وجد ذاته في مكان آخر، ولهذا ينغمس أشد انغماس في هذه البيئة، فيصبح الإنسان هنا متعدد الهوية أصوله من مكان وانتماؤه النفسي والفكري لمكان آخر، فيعيش مزدوج الهوية بل قد يصل به الأمر أن ينكر أصوله ليبين مدى ولاءه للجهة الأخرى، ففي ظل العولمة والتطور التكنولوجي الذي نعيشه اليوم بات يسيراً على الإنسان – إذا لم يكن محصناً – أن ينقاد بسهولة ويصبح كائناً مختلفاً عن بيئته ولاتنطبق عليه مقولة الإنسان ابن بيئته.