الرسائل الإخوانية
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
هذه المرة؛ لن نقول: حتى زمن قريب؛ فهذا القرب قد نأى بعيدا، ولم تبق إلا الذكريات، والذكريات هي لوحدها صادمة، وقاسية، ومضنية، خاصة عندما تعيد إلى الأذهان الكثير من المواقف، والسلوكيات، وحالات الناس التي أصبحت في حكم الـ “متخيل” حيث يستحيل إعادة الحياة إليها من جديد، فقد طواها الزمن بين ستائره الداكنة، ويأتي التذكر دائما؛ عندما يلح الفقد على تسجيل حضوره ولو على صورة الـ “متخيل” فالمهم أن لا تلغيه الذاكرة أبدا، حيث يكون الوصل معدوما.
ومن جملة هذا الـ “فقد” الرسائل المتبادلة بين الأصدقاء وغيرهم ممن يرتبطون ببعضهم البعض في مصالح الحياة الكثيرة – وأقصد بها الرسائل المكتوبة على الورق – حيث فقدت اليوم هذه الرسائل؛ أو تكاد؛ فلم يعد اليوم هناك من يتقصدهم الناس لكتابة رسائلهم إلى صديق، أو زوج مسافر، أو قريب نأت به ظروف الحياة الكثيرة، فلم يعد يسمع عنه شيئا، ولم يعد هناك من يقصده الآخر؛ ليقرأ له رسالة جاءته أيضا من صديق، أو من مسافر، أو من زوج غربته ظروف الحياة لكسب لقمة العيش، كل هذه الصور المتقاربة والملتفة على بعضها لم يعد لها وجود اليوم، حيث أصبحت من الذكرى، طبعا جيل اليوم لا يتخيل هذه الصورة، لأنه لم يعشها بتفاصيلها الدقيقة، أما من أمثالي، فقد عاشها بكل تفاصيلها القريبة والبعيدة، ولكم رأيت معاناة الناس وهم يبحثون عن كاتب لرسالة، أو قارئ لأخرى، فالذين يقرأون أو يكتبون يظلون قليلين في القرية الواحدة، وطبعا من يكون في هذا الموقف؛ يغبط على حالته تلك، حيث يتقصده الناس ويحظى بالتقدير والاحترام لأنه “متعلم” فالعلم له مكانته في كل زمان ومكان، ويغبط أيضا لأنه يظل مطلعا على أسرار الناس، وتفاعلاتهم الوجدانية، فلكم صبت امرأة شابة –أو كيف ما كان عمرها – وجدانها وحنانها وحنينها إلى ذلك الزوج المتغرب، ومثلها الأم، أو الأخت أو البنت، إذا نأينا بعاطفة الرجال بعيدا، عن مثل هذا البوح الذي يأتي تلقائيا وتحمله الرسائل إلى مشارق الأرض ومغاربها، وكم شكل البريد؛ في وقت متأخر بعد ذلك؛ أهمية قصوى في حمل هذه الرسائل، أو ورودها إليه من البعيد أيضا.
وتساميا مع هذه الأهمية التي كان يشكلها هذا النوع من الرسائل، انبرى الكثيرون في التفنن في اختيار العبارة المؤثرة، والكملة الشاعرة، التي تدغدغ المشاعر، وتدمع الأعين، وتشعل الاحتراق بين جنبات الأنفس، وهكذا كسبت هذه الرسائل وكاتبوها وقارئوها الأهمية والمكانة والحظوة الاجتماعية.
وكما أسلفت كل هذه الصور على أهميتها طواها الزمن، فلم تعد اليوم هناك ضرورة تذكر لهذه الرسائل، فضلا عن كاتبيها وقارئيها، فالجميع اليوم يكتب ويقرأ، وجاءت الأجهزة الإلكترونية لتعفي الناس من مظان كثيرة في هذا الجانب، والمهم أكثر في هنا، فلم يعد كثير من الناس يعرفون كتابة هذه الرسائل الوجدانية، حيث لا ضرورة إلى ذلك أصلا.
أختم هنا بقصة جميلة جدا، وهي من قصص التراث المعروفة، حيث يروى: عن جحا؛ هذه الشخصية الفكاهية المشهورة التي عاشت في القرن السابع الميلادي – كما تشير بعض المصادر – ويسمى ذجين بن ثابت الفزاري، وهو أحد التابعين، وكانت أمه تعمل خادمة لأنس بن مالك، أن جاءه رجل وصلته رسالة ومكتوبة باللغة الفارسية، فلم يستطع جحا أن يقرأها، وكان جحا يضع على رأسه عمامة وكبة، فغضب الرجل على جحا، وقال له: كيف لا تستطيع أن تقرأ هذه الرسالة، وأنت تضع على رأسك هذا القاووق والكبة، فخلع حجا القاووق الكبة، ووضعها على رأس الرجل، وقال له: دعها تقرأ رسالتك – نقلت بتصرف – وهذه القصة؛ على طرافتها؛ تعكس ما كان عليه الناس من الحاجة إلى من يقرأ لهم رسائلهم، والأهمية التي يشكلها هؤلاء القارئون والكاتبون.