التقاعد بين إساءة الفهم والدور الواقع الذي ينبغي أن يقوم المتقاعد…
✍️ المهندس خلفان بن ناصر بن سعيد الرواحي
الحياة هي رحلة شاقة، كل واحد فيها يمارس أدواراً محددة يكمل بعضها بعضاً، ولكنها تختلف بين حياة شخص وآخر وبين مجتمع وآخر، كما أنها تختلف في تفاصيل فصولها العامة ، إذ أن فصولها لا يعلم نهايتها إلا الله عزَ و جلَ.
فمن منطلق حياة الفرد والجماعات ، والممارسات الحياتية للبشر ، واستخلافه لعمارة الأرض ، شاءت الأسباب أن يكون لكل فرد عمل يعتاش عليه ، ويمارس حياته ليكون دنيا متحركة ما دام على قيد الحياة ، إلا أن الحياة المعاصرة غيرت تلك المفاهيم ؛ نتيجة الثورة الصناعية ، واختلقت لنفسها مفاهيم تختلف عن فطرة الإنسان التي جُبِلَ عليها ، وجاءت بمفهوم – التقاعد- والذي حدد بسن معينه ومنها الستين عاماً ، بالرغم أن الاسلام لم ينسى ذلك ، ولكن خدعنا بالمفاهيم وتناسينا منهجنا القويم من حيث الاستدلالات من القرآن والسنة النبوية ، وأغلقنا أعيينا وأسماعنا لكي لا نرى ولا نتأمل في أدق مجريات حياتنا ، واستسلمنا لقبول بعض الأفكار التي سيقت لنا ، وقبلنا بها دون هواده .
فإذاً لماذا نحن البشر نحدد انتهاء حياة الانسان؟! ؛ وما هي نظرة الإسلام لهذه المسألة ؟ وما هو الواقع الواجب أن نعيشه ؟.
الإجابة تكمن في أن النظرة العامة التي نعيش عليها اليوم في عالمنا المعاصر ؛ هي أننا أصبحنا ننظر لهذا الإسان كنظرتنا للآلات والأجهزة لها تاريخ يحدد عمرها ونهايتها، فبالتالي أصبحنا نقيس معظم سلوكياتنا على هذا الأساس؛ فوضع الإنسان لنفسه الكثير من النظم والقوانين التي أعتقدَ أنها تنظم حياته وتسيرها على الوجه الأمثل بالرغمِ أنها قد تكون مناسبة في بعضها إلا أنها لم تتوافق معه وخاب في بعضها الآخر من حيث المفهوم والواقع والطموح ، وبقيت مترسخه في الذهن على أن حياتنا منتهية ومتوقفة ببلوغ سن التقاعد الذي تم تحديده وفق القانون والنظام الذي تتبعه كل مؤسسة يعمل بها ؛ وليت الأمر ينتهي عند ذلك بالنظرة الإيجابية !.
فالتقاعد حُكم فيه على الانسان بتاريخ تنتهي فيه صلاحيته، وكأنه آلةً مصنعةً لها سن وعمر إفتراضي وينتهي ، فيستبدل بقطعةٍ أخرى جديدة تتواكب مع إيقاع الحياة الجديدة، وهكذا يأتي من يأتي، ويرحل من يرحل ، فأصبح الانسان هو المشرع والقاضي والضحية.
إن مفهوم التقاعد من المفاهيم الحديثة، التي أخذت بها جميع الدول، فقد ظهر نتيجة التحول للمجتمع الصناعي ؛ وأصبح أن التقاعد مرتبطاً بالوظيفة أكثر من ارتباطه بالعمل. فالمتقاعد يترك الوظيفة عندما يبلغ سناً معيناً وليس شرطاً أن يكون غير قادر على العمل، ولهذا أصبح ينظر إليه من الغالبية كأنه شبح قادم منتظر لتحطيم معنويات الإنسان ويصبح حينها المتقاعد عالة على أسرته ومجتمعه.
لذا، تشير الدراسات إلى أن التقاعد يؤثر على التوافق الاجتماعي للمسنين، ما لم يستطيعوا تعويض فقدان العمل بأنشطة متنوعة يمكن أن تساعدهم على قضاء وقت الفراغ وإشباع حاجاتهم وتحقيق ذاتهم للاندماج مع الحياة وتجديدها بمفهوم آخر يتناسب مع الميول والرغبته والإبداع السابق أو المختزل ، وخبراته المتراكمة التي تجعله يعيش حياته كما يشاء وفق نظام وسلوك معين يحقق مراده وهدفه فيه بعد خروجه من العمل المرتبط به سابقاً.
ولنا أن نتساءل عن الدور الواقع الذي يقوم المتقاعدين به في البرامج التنموية في المجتمع؟ وكيف يمكن أن نغير المفاهيم الخاطئة العالقة في الأذهان بأن التقاعد هو نهاية حياتنا العملية؟ وهل يمكن الاستفادة من القدرات والإمكانات العقلية والجسمية للمتقاعد في إنجاز البرامج التنموية؟
إن مما لا شك فيه بأن الأدوار والقدرات تختلف من شخص لآخر ، وهنا لا نتكلم عن صفة العموم ، ولكن الواقع يفرض علينا أن نتطرق لها الأمر، حيث أنَّ النسبة الأكبر من المتقاعدين تصبح حبيسة البيت ، وربما تعرضت للاكتئاب النفسي ، وربما كانت عُرضه لعدد من أمراض العصر بسبب قلة الحركة ، والشعور بالنقص والوحدة ، بالرغم من قدرة الغالبية منا على مواصلة العطاء كلاً بما يتناسب مع ميوله وعمره ورغباته ؛ وإنَّ من الأمثلة التي يمكن أن يقوم بها المتقاعدون؛ الأعمال الترفيهية والثقافية والأدبية، وأعمال تعليمية وتربوية، وأعمال اقتصادية واجتماعية، وخدمات نفسية واستشارات مهنية كلاً في مجال تخصصه وهوايته ، وفيما يرى أنه يتناسب مع عمره وخبرته أيضاً لتتكامل عوامل النجاح لمواصلة العطاء ، وتجديد الحياة بروح التفاؤل ، ولمواجهة الآثار النفسية التي يتعرض لها البعض، إذ يشعر بعدم قدرته على التكيف مع البيئة الاجتماعية الجديدة، حيث كان عمله السابق من وجهة نظره وواقعه يساعدهُ على حل كثير من مشكلاته، إلى جانب الأهمية والمكانة الاجتماعية التي يحظى بها بين زملاءه ورؤساءه . كذلك فإن قلة الموارد المادية لدى الغالبية تجعل المتقاعد يعيش في ظروف حياتية صعبة، حيث لا يستطيع تحمل تكاليف الحياة بسهولة.
لهذا يجب أن نتعاون ونغيّر المفاهيم في ثقافة المجتمع ، وكما ينبغي على المجتمع أن ينظر للمتقاعد أن مشكلته ليست في ضرورة توفير المسكن والملبس والمأكل باعتبارها حاجات مادية أساسية، فضلاً عن الرعاية الطبية، بل إن سياسات الرعاية للمتقاعدين ينبغي أن تمتد إلى إشراك من له القدرة في البرامج التنموية في المجتمع، وإتاحة الفرصة له بالمشاركة في قيادة دفة التنمية في محيط أسرته ومجتمعه وفي المجالات التطوعية المختلفه.
كما أنه لا ينبغي أن ينسى نفسه بأن يرتاح فيها ويجنب نفسه عناء العمل، وعليه أن يقوم بالترفيه عن نفسه بالرحلات والجولات السياحية أو الجلوس مع أسرته أو مع نفسه وأصدقاءه ، فالتشريع الإسلامي أتاح لنا قدراً كبيراً لمواكبة الحياة وذلك من مبدأ قوله تعالى : ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ))- [الحجر:77] ، فلو رجعنا إلى الإسلام فلن نجد به أي دليل نصي لا من القرآن أو السنة النبوية قد حدد لنا سن تقاعد عن العمل، بل يبقى المسلم يعمل حتى آخر لحظة من عمره ، فيقول الله تعالى في محكم التنزيل : ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))- [الحجر: 99]-، واليقين هنا يعني الموت، إذاً فالعبادة مستمرة حتى ولو كنتَ على فراش الموت.ولنا في حبيبنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة ، والبرهان الجلي في هذا الأمر ، حيث بقي عليه الصلاة والسلام يعمل ويمارس جميع نشاطاته في الدعوة إلى الله ، ويعمل كقائد ومعلم في عدة مجالات دينيه وسياسيه وعسكريه ، ومرشد اجتماعي للأمة حتى لحق بالرفيق الأعلى، ولم يتوقف لحظة عن العمل، لأن الله تعالى أمرنا بالعمل فقال: ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))- [التوبة: 105]، إذاً فالعمل مستمر متى ما كان الشخص قادراً على العطاء ، وليس لديه ما يمنعه وحتى يأتيه اليقين ووداع الحياة.
ولهذا علينا أن نتجرأ ونتحرر لمخالفة الأوهام المتعلقة بمفهوم التقاعد تطبيقاً عملياً ؛ ومنهجاً متواكب مع السنَّة الإلهية، وحتى لا نكون هالةً على أسرتنا ومجتمعنا ، ونقع في المحظور وندخل في معمعة العزلة الاجتماعية والكآبة وبعض الأمراض الجسدية.
٣٠ شعبان ١٤٤١هـ
٢٤ ابريل ٢٠٢٠م