التنظيم الإداري في الإسلام
التنظيم الإداري في الإسلام
إن دقة وأحكام النظريات الإدارية الإسلامية، التي أنتجها الفقه الإسلامي لخدمة حياة الأفراد والمجتمع،حيث لم تترك جانباً إلا وقد وَلَجت فيه، بكل دقة ونظام، فقد فاقت مثيلاتها في النظم الوضعية، وأوجدت تلك النظريات الحلول المثلى والشافية في إجاباتها الظرفية والزمانية، لتكون نظريات معاصرة تخدم جميع مراحل الحياة.
نتيجة الظروف والعواصف والأزمات القاسية التي تمر بها أمتنا الإسلامية،فإن الحاجة ملحة وبشدة لاستنباط العديد من القواعد والأحكام والحلول،من مصادر الشريعة الإسلامية بإختلافها،التي تنظم حياة المجتمع الإسلامي،للوقوف بوجه تلك العواصف العاتية التي تهز كياننا حيث تكالب أعداء الاسلام للنيل منه وتشويه صورته أمام العالم.
بالرغم من أن كلمة “تنظيم ” تستخدم من قبل عامة الناس في غير معناها العلمي ,كأن يقال تنظيم الأسرة ،وتنظيم المرور،إلا أن كلمة “تنظيم “بمفهومها العلمي العام تعني وضع الأشياء في أماكنها ،والأشخاص في أماكنهم،وربط الأشياء بعضها ببعض،والأشخاص بعضهم ببعض ،بهدف تكوين وحدة متكاملة ومترابطة.
ومفهوم التنظيم في إدارة الأعمال لا يختلف عن ذلك،إلا أنه مرتبط أساسا بالعمل والجهد الجماعي ،بمعنى أن العمل المتكامل الذي يقوم به شخص واحد بمفرده دون أن يستعين بشخص آخر أو أشخاص
آخرين لا يحتاج إلى تنظيم وإن كان يحتاج إلى تخطيط،ولتنفيذ أي عمل يقوم به شخصان أو أكثر لتحقيق هدف مشترك,لا بد أن يكون هناك تنظيم ,لأن التنظيم يساعد في تنسيق جهود الأفراد ليعملوا كوحدة واحدة ،أو كفرد واحد .لذلك طالما أن هناك عمل أو جهد جماعي لا بد من وأن تكون هناك حاجة إلى تنظيم.
التنظيم وبشكل رئيسي يلي مباشرة وظيفة التخطيط مباشرة ،وهناك العديد من التعاريف التي وضعها رجال الإدارة وعلماؤها لهذه الوظيفة، ومنها :
يعرفه كونتلر وزميله أدوونيل بأنه:تجميع أوجه النشاط اللازمة لتحقيق الأهداف والخطط , وإسناد هذه النشاطات إلى إدارات تنهض بها ,وتفويض السلطات ,والتنسيق بين الجهود
يعرفه الدكتور صلاح الشنواني تعريف آخر “تحديد أوجه النشاط المختلفة التي يتطلبها تحقيق أهداف المشروع ,ثم تجميع أوجه النشاط على شكل إدارات ,وتحدد الروابط بين الإدارات المختلفة والسلطات اللازمة للقيام بالأعمال المطلوبة في كل إدارة.
من التعريفات السابقة وغيرها للتنظيم نستنتج أن التنظيم أساسا يعني بتحديد المسؤليات والسلطات وإقامة علاقات من أجل تحقيق هدف محدد بفاعلية وكفاءة، وعليه يعرفه الدكتور جميل جودت “التنظيم هو الوظيفة الإدارية التي تعنى بترتيب الأشياء في أوضاع معينة ,ووضع الأشخاص في أماكن معينة مناسبة ,وخلق علاقات بين الأشياء وبعضها,والأشخاص وبعضعهم ,بهدف تنسيق الجهود وتضافرها للعمل كوحدة واحدة متجانسة من أجل تحقيق الهدف المنشود بكفاءة وفاعلية.
تختلف الفلسفة التي يرتكز عليها التنظيم الإداري في النظم الإسلامية عن تلك التي يرتكز عليها ذلك التنظيم في النظم الوظعية ,إذ بينما تتمثل هذه الأخيرة في شكل الدولة وفي الأيدلوجية السياسية السائدة في المجتمع وكذلك في الظروف الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية,فالإسلام عقيدة ونظام والعقيدة هي الأساس أو تلك الفلسفة .
“التنظيم الإداري يجمع بين دفتيه شؤون الناحيتين المادية والروحية ويتناول بالتالي كافة أعمال الانسان في حياته الدنيوية والاخر.
ويمكن القول أن هناك ارتباطا وتلازما بين العقيدة الإسلامية والتنظيم الإداري في الاسلام يصل إلى حد الاعتقاد بأنهما يشكلان كلا واحدا لا يمكن أن يتصور انفصال أحدهما عن الآخر , كما هو الحال بين جذور الشجرة الطيبة وفروعها الممتدة في السماء .يقول الله تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء).
فالنظام الإداري في الإسلام ينبعث من مصادر ذات خصوصية وهي نفسها مصادر الطرح الإسلامي والمتمثلة في عقيدة التوحيد والشريعة الإسلامية ,ثم نماذج الممارسة العملية في عهد النبوة والخلافة الراشدة ,كذلك للنظام الإداري الإسلامي بيئته التي يعمل فيها ويتفاعل معها ويعرفها الأستاذ الدكتور في كتابه ماهية وأصول الإدارة العامة في الإسلام على أنها أي المصادر “مجموعة من العناصر تتولى مهمة القيام بوظيفة النظام ,ويستتبع قيام هذه العناصر بمهمتها حدوث زخم من التفاعلات والتطورات داخل النظام وبينه وبين ما يحيط به من بيئات”.
واجهت الإدارة الاسلامية صعوبات اتفق عليها كل فقهاء المذاهب الإسلامية, ومن تلك الصعاب, هو أنه وبعد اختفاء الخلافة الراشدة في الإسلام, حيث أهملت القواعد والأحكام في اختيار الحاكم, وهذا بحد ذاته انحراف في الدستور الإسلامي, وتجاوز على قواعد الشورى, والعدالة, والمساواة, في الإسلام, ومنهج تداول السلطة, أدى هذا الانحراف, إلى أنيكون تداول السلطة, بشكل وراثي لا يستند على الشورى, وساد مبدأ القوة والاستبداد, وتغييب القانون وفرض ال(مر الواقع المعتمد على القوة والقهر.
أما الصعوبة التالية, فهي لم تَقلُ خطورة من الأولى, هي ظهور نظرية الإسلام السياسي, والتي أعدت لغزاً في ظل تناقضات وتجاوزات, يستخرج ما يروق للحاكم من أحكام يعتبرونها دستورية في ظاهرها, في حين لم يعد وجود للفقه الإسلامي للقواعد والنظريات تلك والتي تتعلق بالقواعد الدستورية, وهذا قاد إلى انحرافات وتناقضات وأخطاء, فيها الكثير من التجاوز على شرع الله.
الصعوبة الأخرى, من وجهة نظر الكثير من الباحثين, أن بعض علماء أنظمة الحكم والإدارة, استغلوا فترة انقطاع الدارسين للشريعة الإسلامية, فانتهوا إلى إيجاد مصطلحات وتقسيمات خاصة, أدت إلى استخلاص قواعد وتنظيمات دستورية كسوابق غير شرعية, وأدى هذا إلى محاولات من فقهاء الإسلام, بإعادة رسم القواعد والأحكام الدستورية المستمدة من الدين الإسلامي وفي إطار القرآن الكريم وسنة نبيه المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم وغيرها من مصادر التشريع الإسلامي, وهذا قاد إلى تقاطعهم مع الحاكم, عندما نادوا بها لتصحيح ما يجري في أروقة الحكم في حينها.
ومن الصعوبات, التي واجهت نظام الحكم في الإسلام, هو أن بعض علماء الدين الذين لديهم نقص في الدراية والمعرفة الكافية بالفقه والشريعة الإسلامية, ومن الذين تأثروا بالأنظمة الأجنبية, وما لحقها من تقدم, فاخذوا يزعمون وينسبون أحكام وقواعد وتفسيرات تلائم وضعهم الفكري المتأثر بالأجنبي, وافتعلوا الحجج والأسانيد لتطويع الأحكام الشرعية الإسلامية, بما ينسجم ويتوافق مع النظم الحديثة, وأظهروا أن في الإسلام نقصا يعيق تقدم أفرادهم ومجتمعاتهم, والبعض الآخر لعدم درايته ووقوفه بشكل صحيح على مناهج البحث وأصول الاستنباط من الشريعة الإسلامية, أوقعهم في متاهات كثيرة ومتشعبة حينما ألبسوا الاسلام رداءً غير رداءهِ, ومبادئ وقيم مختلفة, أدت بالنتيجة إلى اضطراب المجتمع وتفككه, من خلال تبنيهم قواعد وأصول ومعايير تتلائم مع شرائع القانون الوضعي.
احتوت الشريعة الإسلامية على ضوابط وقيود, حددت بموجبها نطاق ممارسة السلطة العامة لوظائفها, وهذا دليل على مرونة الشريعة الاسلامية وصلاحيتها وتعايشها وتفاعلها الطبيعي مع تطور البيئة الاجتماعية, كما احتوت الشريعة الإسلامية, على قواعد وأحكام القانون الاسلامي العام, وهذا يتطلب من القائمين عليها, إلماما تاماً بأصولها وأحكامها وفهماً عميقاً بها وبمعانيها ومقاصدها والمصالح التي استهدفتها, وهنا لابد من المقارنة العادلة بين ما وصلت إليه الشريعة الاسلامية من قواعد وأحكام قانونية منذ أكثر من 1400 سنة وبين النظريات القانونية الحديثة التي تتبدل حسب الظروف.
لقد عرَف المسلمون مبادئ التنظيم واستخدموها في تنظيماتِهم الإدارية، وبهذا سبقوا رواد الإدارة الحديثة، ولو حاولنا استعراضَ مبادئ التنظيم في الإدارة الإسلامية، لتَبَيَّن أنَّها قد اشتملتْ على معظم مبادئ الإدارة الحديثة.
شملت مباديء التنظيم الإداري الإسلامي, العديد من المبادئ التي رسمت الملامح الاساسية للتنظيم الإداري الإسلامي, والتي اعطته القوة والمنعة وجعلته يتعايش مع الواقع ويؤثر به لتبقى آثاره متأصلة ومتجذرة في المجتمع الإسلامي ومكنته من أن يكون تأثيره إنسانياً في المجتمعات الأخرى.
إنَّ ضرورةَ التنظيم تقتضي وجودَ أكثر من شخص؛ وذلك لكي تتكامل الجهودُ وتنسق لتحقيق الأهداف، والتنظيم يُعَدُّ الوظيفة الثانية بعد التخطيط من حيث الأهمية؛ بحيث يتمُّ ترتيب الأشياء ويتم تحقيق الأهداف بأقلِّ جهد ووقت ومال، فالتنظيم هو توزيع المسؤوليات والسلطات والعلاقات بين الأشخاص حسب طاقاتِهم، وقدراتهم، والإمكانات المادية من وقت، ومال، وجهد؛ بقَصْدِ تَحقيق الأهداف المرسومة، وله دَوْر مهم في نَجاح وظائف الإدارة الأخرى، مثل: التخطيط، والرقابة، والتوجيه.
في الادارة الإسلامية, لا ظلم ولا غبن ولا جور على الحق, بل عدل قائم على المعرفة, واليقين ولا يعرف الانحراف, أو يتأثر بالأهواء, وجاء في كتاب الله الكريم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
ان أساس الانضباط في الإدارة الإسلامية, هو الطاعة لولي الأمر, والتي أمر بها الله تعالى ورسوله الكريم, وبدونها لا تنتظم الإدارة, ولا يمكن لها أن تقوم بعملها فالطاعة هي أساس النظام الإداري في الإسلام, وذلك في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)., وقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ( من طاعني فقد أطاع الله, ومن عصاني فقد عصى الله, ومن يطع أميري فقد أطاعني, ومن عصى أميري فقد عصاني).
والطاعة, أساس التكليف والتلاحم والتكامل, في الجهاز الإداري الإسلامي, وحدد لها الإسلام الشروط والضوابط, ومنها قول الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) . كما يتعين على ولي الأمر, أَلا يكلف مخلوقاً فوق طاقته, وأن يكون رؤوفاً رحيماً, كما جاء في الحديث الشريف ( إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم, فلا تحملوهم فوق طاقتهم, فان حملتموهم فاعينوهم).
فالتنظيم الإداري في الإسلام يجب أن يكون وفق محددات الشريعة الإسلامية ووفقا لمصادرها الأساسية فكلما كان التنظيم مستندا لهذه الشرائع ولهذه المحددات ،كان التنظيم صحيحا وميسرا والتفوق في العمل والرقي والعداله للجميع والرضى .