سنة الله في التمكين والاستخلاف.. والاستبدال
عبد الرزاق أحمد الحسيني
خلق الله هذا الكون ونظم له قوانين وسنن , ومن قوانين الله في الكون طلوع الشمس وغروبها ودوران القمر والأرض و تعاقب الليل والنهار والكثير من آيات الله سبحانه,ومن آياته خلق الإنسان وجعله خليفة له في الأرض، قال تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) فهو يعمرها ويتكاثر فيها ويعبد الله تعالى (وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون).
واقتضت حكمة الله بوجود الخير والشر والإيمان أو عدم الإيمان, وحمل الإنسان الأمانة وهي التكاليف الشرعية وعمارة الأرض وما يترتب على ذلك من صراع بين الخير والشر، وقد وعد الله المؤمنين بالخير والنصر واستخلافهم في الأرض والتمكين لهم، شريطة أن يؤدّوا الأمانة التي حملوها ويقيموا شرع الله وأن يحمكوا بالعدل بين الناس، وفي ذلك يقول الله تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ولا يشركون بي شيئا).
فكان الاستخلاف والتمكين في الأرض مشروطاً بالعبادة والتقوى وطاعة الله وحمل الأمانة، وهي سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلات.
والتاريخ حافل باستخلاف الأمم وتمكينهم في الأرض، وبقي هذا التمكين ما بقيت تلك الأمم محافظة على شرط التمكين وهو الإيمان بالله وعمارة الأرض، ولكن ذلك التمكين سينتهي إن لم يتم الالتزام بشروطه، وهذا دأب الأمم التي طغت وتجبرت وخانت الأمانة التي حملتها فكانت سنة الله بإزالة التمكين .
وفي تاريخنا الإسلامي الكثير من الدول التي استخلفها الله تعالى ومكن لها في الأرض، وبقيت تلك الدول قائمة قوية طالما بقيت على إيمانها وحملها للأمانة، ولكنها ما إن تنسى الأمانة أو تخالف شرع الله أو تركن للدعة والمعاصي حتى يزيلها الله، وهنا تأتي سنة الاستبدال التي قال الله عنها (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليما ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئا) وقوله تعالى (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).
و سنة الاستبدال هي أن يستبدل الله الأمة التي طغت بأمة أخرى تقيم شرع الله في الأرض وتحمل الأمانة على أتم وجه، وهو ما حدث مع الدول التي تتالت في تاريخنا الإسلامي ,ابتداءً بالرسالة المحمدية التي جاءت بعد فترة من الطغيان والظلم لأمم الفرس والرومان وشعوب الجزيرة العربية قبل الإسلام، فكانت الأمة الإسلامية منارة للعدل وإقامة شرع الله وإحقاق الحق للبشرة، واستمرت مع الدولة الأموية التي فتح الله في عهدها معظم بقاع الأرض المعروفة وقتها، ففتحت بلاد فارس وقضت على الوجود الرومي في بلاد الشام وشمال أفريقية والأندلس، وأقامت شرع الله في الأرض فمكن الله لها طيلة قرن من الزمن، وكان الخلفاء مسؤولون عن إمامة الرعية وتحقيق العدل في الأمة، وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز مثالاً للعدل والتقوى، ولكن في أواخر عهدها ظهر بعض الخلفاء الذين نسوا تلك الأمانة وعصوا الله وانتشر الظلم واللهو والمجون في عهدهم (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)، فكانت سنة الله المحكمة أن يستبدل بهم قوماً آخرين يحبهم ويحبونه ويقيمون شرع الله ويحفظون الأمانة، فاستبدل الله الأمويين بالعباسيين، وأزيلت دولتهم .
فكانت بغداد حاضرة الخلافة العباسية مقصداً لكل الأمم، يخطب الملوك ودها، وكانت أعظم قوة على الأرض ومكن الله لها، وكان الخلفاء من القوة بحيث كانوا يخاطبون ملوك الروم بصيغة (كلب الروم)، لدرجة أن الخليفة المعتصم جهز جيشاً جراراً حميةً لامرأة مسلمة استصرخته وامعتصماه ,فكانت وقعة عمورية الشهيرة التي قُهر فيها الروم و خلدها الشاعر أبو تمام بقصيدته :
السيف أصدق أنباءً من الكتبِ ………………….. في حده الحد بين الجد واللعبِ
ولم يكن ملوك الروم يجرؤون على اغضاب العباسيين من شدة قوتهم وتمكين الله لهم،واستمرت دولتهم في التمكين قرابة ستة قرون متواصلة إلى ضعفت في آخر أيامها وتفرقت إلى دويلات متنافرة، بل إن الأمة وقعت في مصيبة عظيمة عندما سيطر الصليبيون الروم على سواحل بلاد الشام، وهددوا مصر، حتى غلب الظن أن الأمة انتهت إلى غير رجعة، فهيأ الله عبداً من عباده أعاد إلى الأمة سيرتها الأولى وهو صلاح الدين الأيوبي.
كما قام آخر الخلفاء العباسيين بارتكاب نفس أخطاء خلفاء بني أمية في اللهو والمجون واستباحة المحرمات والطغيان، وترك أمر الرعية للولاة الظالمين، لدرجة أن آخر خليفة (المستعصم) كان يطلب الجواري والمغنين من الموصل، والمغول يطرقون أبواب بغداد غير مكترث بمصير الأمة، فكان حرياً بسنة الله أن تزول دولتهم، وتطوى صفحة مجدهم وتمكينهم في الأرض، فاستبدل الله بهم قوماً آخرين يحبهم ويحبونه، وكانت الأمة الإسلامية على موعد مع استخلاف جديد تمثل بالأتراك العثمانيين، فسقطت بغداد بيد المغول واستباحوها وأحرقوها وقتلوا من سكانها الملايين وكان ذلك في عام 1258 م، وهو نفس العام الذي ولد فيه عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية التي استبدل الله العباسيين بها، فأقامت دولة عظيمة وفتحت القسطنطينية عاصمة الروم التي استعصت على الفتح عدة قرون على يد السلطان محمد الفاتح الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها).
واستمرت تلك الدولة في التمكين في الأرض ففتحت معظم أوربا ووصلت إلى أسوار فيينا، وكان ديدنها إقامة شرع اللهِ إلى أن ضعف سلاطينها وتسلطت الأمم عليها نتيجة بعدهم عن الله والأمانة التي حملوها فكان أن زالت دولتهم وتمزقت .
ومنذ سقوط الخلافة العثمانية قبل 100 عام خلت والأمة غارقة في بحر لجّي لا تهتدي إلى الحق تتقاذفها الأهواء والمذاهب والفرقة والضعف وغزو الأعداء، وتسلط الحكام الطغاة الظلمة، فإن لم نعد إلى ديننا السمح، وأخلاقه الكريمة، والأمانة التي عهد الله بها إلينا، فلن ننتصر، وقد يستبدل الله بنا قوماً يحبهم ويحبونه كما قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم )، ولنكن قائمين على الحق كما بشر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم)، وهذا ما نعاني منه اليوم في الثورة السورية المباركة التي اختارنا الله لها، من خذلان القريب والبعيد، وتسلط الأمم علينا، خوفا من انتصار ثورتنا العظيمة، لأنهم يدركون أن انتصارها يعني تبدل المفاهيم الدولية وانقلاب موازين القوى لصالح الأمة التي ستقيم دولة الحق والعدل والدين الوسطي لتحرير شعوب الأرض قاطبة من الظلم والتخلف، وبناء حضارة زاهية.