تفنى الأجساد ولا تفنى الحقوق
إلهام بنت سالم السيابية
تعالى الصراخ والبكاء من النساء والرجال في أرجاء ممر المستشفى بالعناية المركزة ، الكل كان في حالة هستيرية من النواح والعويل فحاول كل من الأطباء والممرضات أن يخففوا عنهم بالكلمات الطيبة، وقدموا التعازي في فراق تلك السيدة الفاضلة التي لطالما أحبوا ابتسامتها ودعاءها الدائم لهم بالحفظ لإبنتها الشابة التي كانت معها طوال الوقت في المستشفى، فهم لا يعرفون غيرها، وبحزن حاولت أن تحتضن إخوتها وتقول لهم وتفهمهم:
_أنه أمر الله، وأمره مطاع وعلينا الصبر والتصبر على مصيبتنا.
إلا أنهم بدل من أن يلوذون إلى الهدوء ازدادوا نكرانا لها وهم يقولون :
_لقد سحرتي أمنا بكلامك المعسول والآن تحاولين التأثير علينا، أنتِ منافقة، ولا حاجة لنا بك ابتعدي عنا، اتركينا نبكيها، لقد خرجت من بيتنا غير راضية علينا ولم تنظر حتى لوجوهنا،
_اطلبوا لها الرحمة والتثبيت و…
صرخت اختها الكبرى :
_ لا أريد أن أسمع صوتك.. لا أريد ، اتركينا واذهبي حيث تريدين.
تركتهم يبكون وينوحون أمهم، أجل كانت أمهم غاضبة عليهم وغير راضية عن ما يفعلونه لأنهم أرادوا إدخالها لماوى العجزة لعدم قدرتهم على تحمل مسؤوليتها، وهي التي تحملتهم رغم صغر سنها بعد موت زوجها لم تطلب الزواج أبدا لأنه كان سيعيقها عن تربيتهم، فالزوج يعنى لها مسؤلية أخرى، رزقها الله بولدين وثلاثة بنات، شفاء هي الوحيدة التي لم تتزوج رغم كثرة خطابها إلا أنها كانت تعتني بإمها ولا يهمها عمل أخر ، أما البقية فقد إلتزموا ببيوتهم وأسرهم فقط، أما أمها التي كانت تعشق التراب الذي يمشون عليه وافنت حياتها لهم، هي المرأة التي لم تكمل دراستها لأنها تزوجت صغيرة السن ولم تجد عملا يسترها الا كعاملة تنظيفات في شركه خاصة، بالإضافة لهوايتها في مجال الخياطة التي كانت تقوم به بعد عودتها من عملها في الشركة، ولكن مكنتها قديمة، ولقد ذهب نظرها وهي تسهر الليالي لتوفر لهم المال الذي يحتاجون له، فإستطاعت أن توفر لهم بيتا نظيفا ولقمة هنية وراحة البال نعمة جلية، وبعد أن كبر الصغار أخذوا يتحسسون من عمل أمهم وملابسها البالية وفقرها الواضح لكل من يراها، فكل واحد منهم أصبح له مكانة علية وصوتا مسموعا، فتركت عملها في شركة المنظفات نظرا لكبر سنها وعدم قدرتها لتحمل اعباءه الكثيرة أما الخياطة فهي هواية قديمة نمت معها منذ الصغر، وورثتها شفاء عنها، هي أصغر بناتها وأحبهن لقلبها لأنها لا تحمل قسوة قلوبهم ولا جفاء عواطفهم، بل تحمل قلبا واسعا بالحب وصبرا كبيرا على أذى إخوتها، ورغم كثرة الخطاب الذين تقدموا لها إلا أن إخوتها كانوا يرفضونهم، فهي تهتم بإطفالهم، وبأمهم، فكل منهم مشغول بدنياه.
توقفت شفاء أمام جثمان أمها وهي متصبرة ومحتسبة غير مبالية بكلامهم الذي أعتادت عليه فكل همها الآن أمها فقط رفعت يديها وأخذت تدعوا لها بالثبات والمغفرة والرحمة وأسهبت في الدعاء ولم تشعر بكل ماحولها اختفى صوت النواح والبكاء ولم تسمع إلا دقات قلبها المتسارعة، وخوف غريب، وبرودة بدأت تسري في جسمها وكأنها تشتم رائحة أمها الطيبة في المكان، عودا مخلطا بالمسك الطيب ، فإرتاحت نفسها وأكثرت الإستغفار والتهليل والحوقلة والدعاء بالتثبيت والمغفرة والرحمة.
تعالى صوت دقات الباب، ترى من يكون، منذ وفاة أمها لم يزرها أحد بعد إنتهاء مراسم العزاء، فأسرعت شفاء لفتحه متخيلة إخوتها قادمون لزيارتها فوجدت شابا محترما يقف أمامها بكل هيبة، فخافت ولكنه طمنها وقال لها : إسمي حامد، جئت لاطمئن عليك فقط، فمنذ أن اشتريت البيت من أصحابه ابلغوني بأنك مقيمة هنا، ولكني لم أراك تخرجين أو تدخلين فخفت أن قد أصابك مكروه.
وهل باعوا البيت أيضا؟؟
ألم يخبروك؟؟كنت سأقوم بعمل تصليحات خاصة في البيت ولكن…
لم يكمل لأن دموعها حركت مشاعره فاخذ يعتذر وهو يقول امكثي ما يطيب لك فأنا لا أمانع.
ولكنها تمالكت نفسها وهي تقول :
الأرض أرضك والبيت بيتك، ولم يعد لي فيها نصيب
أنت من أصحاب المال ولكني اشتريته منكم.
فاصر على معرفة قصتها.
فاخبرته بكل بساطة، أن بعد موت أمها باع إخوتها كل شيء ولم يعطوها اي شيء وكل ماطلبته هو أن تبقى في هذا البيت ليسترها وياويها من غدر الزمان ولكن يبدو أن الجشع قد أعمى قلوبهم عن أختهم الوحيدة التي لم يبقى لها بعد رحيل أمها إلا الله.. فحسبي الله عليهم .. فمسحت دموعها وهي تقول له :كل الذي ارجوه منك أن تمهلني بعض الوقت لأجد لي مكان آخر..
ذهب حامد عنها وهو يتاملها بعينين حزينتين لما حال إليه أمرها، ولكنه لم يتوقف إلى هذا الحد، بل أخذ في البحث في أمرها وتأكد مما قالته، وحرمانها من ميراثها الذي اكلوه إخوتها بدون وجه حق.
سأل عنها ولما هي وحيدة في البيت جاءه الجواب سريعا، الواضح أن كل إخوتها حاول استغلالها وجعلها مربية لأبنائهم وعاملة في بيوتهم ولكنها بعد موت أمها رفضت أن تعيش مع أي واحد منهم وإنما طلبت ان تبقى في بيت أمها لتعيش بذكراها ولكنهم طمعوا فية فهو سيعود عليهم بأموال كثيرة.
بعد عدة اشهر عاد حامد من جديد وهو يحمل أوراقا وملفا مغلفا بيده، فخافت شفاء فاسرعت بالقول : سأخرج خلال أيام ارجوك لا تستعجل، ولكنه ابتسم وقال لها لا داعي لذلك، فلم أعد صاحب البيت ولاصاحب الأرض الآن.
ماذا؟ لقد توسمت فيك الأخلاق الطيبة لذلك طلبت منك أن تمهلني، فهلا أخبرت المالك الجديد بأن يمهلني؟
_اخبريها بنفسك.
وقام بإعطائها الأوراق، وأخذتها بخوف وهي تتأملها ولم تخفى عليه لحظات الخوف والترقب والابتسامة التي اضفت جمالا اخاذا عليها أراح قلبه ولكنها ترددت فسألته مترددة : لم أفهم؟؟
_لقداصبحت انت المالكة لهذة المزرعة والبيت بغير منازع بيع وشراء مني لك.
وأخذت تبكي وهي تقول: المزرعة والبيت أصبحوا لي؟؟
وبعد أن هدأت قال لها : عندي طلب صغير أن وافقت عليه أكون أسعد الناس، وإن لم توافقي سأرحل من هنا بلا عودة فالأوواق التي بين يديك هي حقك ولن يأخذه منك أحد وهو مسجل في السجل العقاري.
كيف اجازيك على كل هذا الخير ياسيدي.
أستغفر الله، لقد قمت بما املاه علي ضميري، والأمر يعود لك ففكري وخذي راحتك في التفكير ، كانت أمي دوما تدعو لي بالزوجة الصالحة ولكني أجد صفاتها فيك، فهل تقبلين بي زوجا لك؟؟
نظرت له بخجل وهي تقول له بعد أن أنهى حديثه :
سبحان الله لقد عوضني الله خيرا مما توقعت اولا الأرض والان السند، لقد رأيت رؤيا البارحة وهناك من يقول لي : الخير في القادم، وها أنت أمامي اليوم فمن أكون لأرفض عطايا الرحمن، فالحمد لله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا..