ليس سوى المعرفة
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
لم تعد المعرفة حكرا لأحد من الناس، مهما كبر هؤلاء الناس أو صغروا، ارتقى هؤلاء الناس أو نزلوا، ثري هؤلاء الناس أو افتقروا، ولذلك يظن كذبا من أوهم نفسه أنه اعتلى برج المعرفة لوحده بصورة مطلقة، أو امتطى صهوة جوادها بنفسه ولنفسه، فاليوم المعرفة مباحة، ومستباحة، تذهب بعيدا إلى حيث من يريدها، وتتموضع في خندقها لمن لا يريدها، وقد تضغط عليه بقوة الحاجة، المعرفة اليوم أكثر ضرورة وأكثر شمولية، كما كانت من قبل ضرورة ملحة وفقط، المعرفة اليوم تفرض نفسها بقوة الوسيلة، والوسيلة اليوم متعددة، ومتشعبة، وعميقة ومعقدة، فهاتفك النقال واحد من وسائل كثيرة به من التعقيد ما به، وبه من الوسائل ما به، وبه من الخدمات ما به، فلك أن تحدد موقعك منه، فإن صعدت إلى فضاءات العلو فسيخدمك، وإن اكتفيت بالمسير على امتداد أفق الأرض فهو يكفيك.
عندما نغلظ القول في وصف المعرفة، وهو وصف تنظيري، فإنا المعرفة تفرض هذه الغلظة لتعقيدها، وإن بسطنا القول فيها، فهي من يدعونا إلى هذا التبسيط، لأنها الأقرب إلى الجميع، فحتى زمن قريب تلكأت البشرية في الدخول في معترك المعرفة، ولذلك احتكرها البعض؛ فنعتوا بألقاب كثيرة لا أول لها ولا آخر، وتبوأوا مكانات ربما فيها مبالغة، ومع ذلك فكثيرا منهم لم ينصفوا المعرفة، ولم يخدموا الباحثين عن المعرفة، فبعدت بينهم وبينها الشقة، فقطعوا الصحاري، واعتلوا الوهاد للبحث عن المعرفة، ومع ذلك حققوا اليسير، وبهذا اليسير نعتوا بكل ما عرفوا به، فجزى الله أولئك الذين كانت لهم مع المعرفة محطات، وكانت لهم مع الباحثين عنها مواقف وعظات.
قبل أيام كنت أشاهد مقطعا تبثه إحدى الفضائيات يصور طريقة مبتكرة لمرحلة قادمة لعلاج الأجسام، وهي الطريقة التي لا تستدعي جرح الجلد، فقط يوصل جسم الإنسان بالحاسب الآلي، ويبدأ الطبيب بعلاج مرضاه من خلال الحاسب الآلي، فيشرح هذا العضو، ويستأصل آخر، دون أن تخرج نقطة دم واحدة من جسم هذا المريض الذي يتابع الطبيب في علاجه عبر الشاشة، وكأنه يتابع مجريات احداث أحد الأفلام، ربما ينظر اليوم إلى هذا المستوى من التقدم على أنه نوع من الخيال، ولكن لو استنطقنا ذاكرتنا لما قبل عدد من السنوات، أيضا كنا نقرأ عن هذا الجهاز السحري “الهاتف النقال”، وكنا نستعظم الأمر أن نكلم أحد ما ونرى كامل هيئته وهو يبعد عنا آلاف الكيلو مترات، وكنا نعد ذلك نوعا من الخيال المبالغ فيه، فإذا بهذا الخيال في ذلك العمر من الزمن يصبح اليوم حقيقة ماثلة، وقس على ذلك أمثلة كثيرة.
تسألني ابنتي “الحسنى” ذات العشر سنين، عن مسألة ما من مسائل منهجها المدرسي، وجهتها مباشرة إلى المعلم “جوجل” فعنده الخبر اليقين، فما هي المعلومة التي نبحث عنها، ولا نجدها عند معلمنا الكبير “جوجل”، لا أتصور هناك معلومة في أي تخصص كان، لا توجد عندنا معلمنا الكبير، أمده الله بثراء المعلومات، فالحمد لله أن أسقط الألقاب والنياشين عن المتألهين من بني البشر، نعم إنها المعرفة التي رفعت بني آدم إلى مصاف العليين في التعامل مع ما حوله، فلعله يعود إلى بشريته، ويدرك أنه كائن بشري له عقل وعنده رحمة وعاطفة تعينه على إفشاء السلام، وإشاعة الأمن على من حوله، وأن يتخلى عن “مارديته” الممقوتة، أن يتنازل عن عنجهيته، وسفسطائيته، فبقدر إنجازه العلمي، أصبح معرى من كل تجاذباته النفسية، وإن حاول أن يمسك العصى من الوسط، فليسقط كافة معززات سلوكياته المعوجة، ويكفيه أن يستلهم المعرفة لتقوده إلى بر الأمان.