2024
Adsense
مقالات صحفية

صناعة المعصية

أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com

يأتي مصطلح “بناء …” كأحد المصطلحات المتداولة اليوم، أكثر من أي وقت مضى؛ فهناك “صناعة المستقبل”، و”صناعة السياحة”، و”صناعة المعرفة”، وغيرها الكثير من البناءات المعرفية التي يراد منها رسم صورة متخيلة للقارئ، أو المتابع في استحضار هذا البناء، ذلك لأن اللغة في تطورها لا يقاس فقط في البحث عن مفردات لمعاني اللغات الأخرى، بقدر قدرتها على إنشاء صياغات ومفردات تتوازى مع ما يشهده الواقع من تطورات، ومن هنا يتكرس الوجود اللغوي في سياقات الحياة المختلفة.
الحديث هنا ليس عن مصطلحات البناءات اللغوية وقدرتها المنجزة في الحياة العامة والتخصصية، وإنما يتمحور حول “صناعة المعصية”، هذه الصناعة الرائجة في عالمنا الإنساني مع مرور الزمن وخبرات الإنسان التراكمية في الحياة، فكلما توغل هذا الإنسان في عالمه المتحضر، كلما استطاع أكثر أن يخترع أساليب، وطرقا لتعزيز مكانة هذه الصناعة، وقدرتها على الإساءة أكثر على تاريخ الإنسان، الذي – في الأصل – وجد لإعمار الحياة، وليس للإساءة فيها، ومما يبعث على الدهشة أكثر هو حرص الإنسان على الولوج أكثر في هذه الصناعة مع معرفته اليقينية أن ذلك إساءة أكثر لواقعه، ولحاله، ولمستقبله، وضربة قوية في مفهوم الوعي الذي يحرص على بنائه درجة درجة، بدءا من عمره الصغير حيث الخطوات الأولى للمعرفة وللخبرة، مرورا بمجموعة التجارب الكثيرة التي تكون فيها المعصية، دائما، معاول هدم للحيوات على اختلافها، وصولا إلى العمر العتي التي تصل فيه مشاعر الإنسان إلى حالة من التوازن، وقد يكون العقل هناك أكثر قدرة على تنظيم مختلف مشاعر الإنسان، ولملمتها من الشتات الذي عانته طوال سنوات الجموح، والجري غير المنظم لتطلعات الإنسان في هذه الحياة، وربما تكون الحالة عند هذا المستوى العمري أكثر إساءة للإنسان عندما يظل على ذات الصورة في صناعاته للمعصية، ويحضرني هنا قول جميل يقول فيه صاحبه: “عمر الشبيبة يبدي عذر صاحبه: ما بال شيبية يستهويه شيطان”.
“صناعة المعصية” سلوك إنسان منذ بدء الخليقة حيث ارتكاب أول جريمة قتل بين الأخوين (قابيل وهابيل) في ذلك العمر المبكر للحياة الإنسانية، ومع الزمن تتطورت هذه الصناعة، حيث يستخدم فيها الإنسان شتى الوسائل المتاحة في كل عصر، مثله مثل أي أحد آخر مستفيدا من تطور التقنية في عصره، مع علمه اليقيني أن ما يقوم به أمرا في غاية السخف لأنه يسيء إلى نفسه أكثر من غيره من الكائنات الاخرى التي تقاسمه الحياة، وإن كانت كل الكائنات تتحرك في صناعتها للمعصية بوحي غريزي يفتقد فيه العقل حضوره المؤثر، فإن الإنسان يتحرك في صناعته للمعصية من وحي عقله الراشد الذي ميزه الله به عن سائر الكائنات الأخرى، وهذا الأمر يعد أكبر انتكاسة في فهم البشرية لواقعها، للأسف الشديد، كل ذلك لإرواء طموحات والسعي لتحقيق آمال، ولا يهم في المقابل أن تتدمر الحياة بكل من فيها، لتنتصر فردية الإنسان بعد ذلك، مؤكدة لجميع الكائنات الحية، هذا الصلف الإنساني، وهذه النرجسية، وهذا التطاول على حقيقة الحياة، وهي الحقيقة التي تنشد الأمن والإستقرار، والعيش بسلام، قبل الإنتقال إلى الحياة الأخرى، الموعودة بها المؤمنين، أو الفانية مطلقا عند فهم آخرين أيضا.
“صناعة المعصية” امتياز خاص بالإنسان فقط، فهو الوحيد الذي له القدرة على تفعيل أساليب هذه الصناعة، وعلى توظيف مختلف الوسائل المتاحة في هذه الصناعة، وهو الوحيد القاسي على بني جنسه، صحيح أن بقية الكائنات هي أيضا قاسية، كما نرى في بعض المشاهد، ولكن قسوتها يأتي بدافع غريزي لا يلبث أن يزول مع الارتواء الغريزي، بينا يظل الإنسان صاحب العقل يغالي في الإساءة إلى نفسه، وإلى من حوله بتفننه في صناعته للمعصية.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights