هي الأيّام..
فؤاد آلبوسعيدي
هي الأيّام والشهور المشهودة قد أدركناها بما حملته لنا فأذاقتنا ما بها من عتيم الصّبح رغم نوره، وضجر الظّهر رغم نشاطه، ووحشة تلك اللّيالي الطّويلة رغم سكونها، وغربة ضياء القمر رغم بهائه وجماله الأخّاذ، هي كذلك تلك اللحظات التي أضحت علينا جائرة بمرارة آلامها المتواصلة فتجعل الدّمعة تسيل رُغماً عن أرادتنا وكأنّها أمواج نخوضها بين ضفتي مدينتين، هي أزمنة نعيشها عسيرة فما أدراه من لم يذق مرّها ودقائق حزنها المريرة مثلنا، سريعة هي بين الأمس واليوم الذي لا زلنا نرى أنفسنا وكأننا نعيش ذلك الأمس التعيس، لقد مضت فترة ليست بالقصيرة على فراقك، ما زال الوجوم يسكن وجوهنا، وكأننا لا زلنا بعد في الأمس الذي تقطعت فيه الأوصال بيننا وبينك للأبد، ذلك الأمس الذي لم يُبقي لنا منك سوى الكثير والكثير من الذكريات الجميلة والطيبة التي حتماً ستبقى خالدة في مخيّلاتنا.
هي الأيّام التي لم يعد غريباً على البعض منّا أن ندرك بأنّ هنالك الكثير بيننا قد أصبح يتصنّع الفرح وما هو بفرحٍ، بتّ أشاهد في أعين الكثير منّا محاولات خجولة لإرتداء أثواب الأفراح والسّعادة فوق لهيب كلّ تلك الجمرات المؤلمة والمُحرِقة التي أبت إلاّ أن تكون ساكنة في كلّ شبرٍ من قلوبنا بل وجوارحنا جميعها، أراها النّفس وكلّ الأنفس كذلك لا زالت تحاول الحياة بصعوبة مع واقعية عدم وقوعنا بين تلابيب الحزن وجنبات الفراق، بل وإنّي أراني كلما أبصرت إلى كلّ تلك الوجوه أمامي أيقنت بأنّ ذلك الجرح والحزن الأليم جداً لا يزال يسكن قريباً من الجميع وكأنها بصماتنا التي نحملها في أصابعنا تذهب معنا أينما كنّا.
هي الأيّام التي إكتشفنا فيها بأن أوراق الشجرة قد فقدت بريقها المخضرّ وكأنها باتت تفتقد إلى اليد التي لطالما كانت تقوم برعايتها وقطف ثمارها، نعم هي هذه الأيام التي تجعلني أحزن كلما عبرت أسفل ما كان يقيني من شمس الظهيرة المحرقة، أبحث عن رأفة وكرم ظلّ تلك الشجرة التي كانت وفيّة بظلّها الكبير، فلا أجد ما أنشده وما أتوق إليه، هي الأيّام التي بدأت تبدو لي وكأنّها تلك التي كانت جميلة بخضرتها قد ملئتها أيضاً الأحزان فما عادت تحفّنا بظلّها مثلما كانت كريمة وظليلة بأوراقها وأغصانها الكثيرة، هي الأيام التي ما عادت فيها الأوراق الخضراء تحبّ المكوث في الأعلى، فقد أحبّت أن تذبل كأفراحنا، وتلك الأغصان القويّة رغم صغرها أراها تختلّ وتسقط كما تسقط القلوب فيما بين جمال الربيع وقسوة الخريف الذي ربّما قد بدأ قبل أوانه، نعم هي الأيام التي ماعدت أرى فيها أيّة ثمرة يانعة قد حانت موعد قطافها.
هي الأيّام التي لا زلت فيها ألقي بجسمي في نفس الرّكن الذي كنت أجلس فيه دائماً، هو ذات الموقع المميّز الذي لطالما وعند وجودي أحببتِ أن يكون وكأنّه ذلك العقار المسُجّل صكّه بإسمي منفرداً فلا يجلس فيه أحداً غيري عند حضوري أمامك، هو ذات المقام الذي أحببته فلم ينازعني فيه أحدهم أمامك، فقد مُنِحْتُ ملكيّته حتى كاد أن يكون كجمهوريةً معترفاً بحدودها لديك لا ينازعني فيه أحدهم وخصوصاً عند حضورك، هي الأيّام التي لا زالت تجبرني عندما أكون في تلك الزاوية أن أُمعن النّظر إلى ما كان موضع جلوسك اليومي وكأنني أنتظرك أن يبدأ طيفك الخالد في محادثتي دونما أن يكون لساني البادئ في الكلام، بتّ أراقب ذات المقعد وكأنني أشاهد حركاتك بصمتٍ وأنتظركِ سماع منطوقك أو أن أُسأل عن شأنٍ متبوعاً بتلك الإبتسامة المعهودة والمحبوبة منك، هي الأيام التي تجعلني أستنكر بصمتٍ كلّما رأيت أحدهم قابع في جلسته في ذلك المقام الذي كان عرشاً لك ومنه كنّا نستمع إليك مشدوهين صاغرين فنأخذ بعضاً من الحكمة التي تنقصنا وما زالت دونك تنقصنا.
هي الأيّام التي كلما مضت علينا إكتشفنا بأنّ رائحة الدّار ما عادت كما كانت، وما عادت رائحة المطبخ تجذب الأنوف قبل رائحة الطّعام الجاهز في السُّفرة الذي دوماً كنّا نتسابق إليه آكلين وحامدين الرازق على وجودك بيننا، هي الأيّام التي كلّما مضت بنا إكتشفنا مدى تعاسة الحياة دونك، فكم عرفنا مدى شقاؤنا الآن ذاك الذي كان مستوراً بما كان نجده من سخاء وكرم يداك الحانّتان، هي الأيّام التي تجعل من بعضنا متلعثمٍ في فكره ولسانه وحتى هيئته التي لا زالت ضائعة بين الحزن والسّعادة، نعم هي الأيام التي نُكثِر فيها الدّعاء للبارئ بأن يُنزل رحمته عليك وجميع موتى المسلمين.