أين أمي؟…
إلهام السيابية
ساد الليل ، فأضيئت الشوارع بإنارة خافتة في ذلك الظلام المعتم ، وتميزت حركة السير بهدوء المركبات وقلتها في ذلك الجو البارد ، لم يحفل المارة بتلك المرأة، التي جلست بجانب الرصيف، تعبه، تتلحف بدثار بالي بألوان باهتة ، لم يسمع اي منهم صوتها وهي تتشنج من البكاء المتواصل فوجهها المخفي بكفها منع كل من حولها من الإقتراب منها ورؤيتها عن قرب ، أخذت نفساً عميقاً وهي تنهض من مكانها مترنحة،ظنها البعض مخمورة، والآخرون ابتعدوا عنها ظناً منهم انها متشردة، أما الأغلبية فقد ظنوا أن بها مرضاً عضال كالوباء وقد يصيبهم ان اقتربوا منها ..فكلما اقتربت منهم كانوا يخافون ان تلمسهم، فينفضون ملابسهم من لمساتها..وسقطت أمامهم بلا رحمة ، تجمهر الناس حولها ، ومن آخر الصفوف الواقفة تقدم شاب مهندم الثياب مسرع الخطى ، أخذ يبعد الناس ليصل لوجهته، وعندما رأها إرتمى على ركبتيه، نائحاً باكياً ، يضرب صدره بكل قوة وهو يصيح بصوت مرتفع :
سامحيني يا مهجة القلب … سامحيني يا أماه…لم أكن أعرف ،سامحيني ؛سامحيني ،وأخذ يحضنها بقوة وهو يقول :
ياريحة الجنان ، يا بابا من أبواب الجنة لا تغلق ، سامحي الغافل .
لم يعرف المارة ما يحدث وبقي البعض يذمه لتركه لامه بهذا الشكل والبعض يتأسفون على الأم التي وقعت أمامهم مغشيا عليها .
كانت المرأة تتلمس شعر ابنها بضعف شديد وكأنها اشتمت رائحتة ،فأنتفض بقوة ليحملها بين يديه وكأنه يبحث عن متسع ليحملها ويتخطف بها بين الناس ويدخلها في سيارة أجرة ..للمشفى بسرعة… ارجوك .
تأملها وهي بين يدي الأطباء..ضعيفة البنية ،وهي تراقبة بعينين غير مصدقتين .. لقد عاد.. أمسك بيديها بقوة وهو يتمتم ..سامحيني يا امي …تركتك لتلك الزوجة المظلة التي حجبت عن عيني الحقيقة..ظننتها زوجة محبة،كنت كالمسحور أمامها لا أرى غيرها من جمال ودلال،مثلت علي دور الزوجة المحبة الخدومة لام الزوج،لا أرى الا وجهها الفاتن ونفسي المريضة تنحاز لها ، لم ارى كل العيوب التي كانت ظاهرة للغير إلا لي، الكل ينصحني . ولكني لم اكن استمع الا لصوت قلبي ،وانغمست في حبها حتى نسيت كل من حولي . نسيتك يا امي ..أعز الناس لي،(واخذ البكاء منه مأخذه وهو يقبل يديهاوجبينها)..
أنت التي أعطيتني عمرك بعد وفاة ابي ورفضتي أن تتزوجي بزوج أخر رغم صغر سنك وجمالك الجلي الذي لا يخفى على الناظر ،ولكنك خفت على ابنك من زوج أم ، يظلمه او يضربه فيذل ويقهر ، فجعلت حياتك كلها لي ، كنت تحاولين إن تثنيني عن ذلك الزواج من تلك المرأة التي أسرت قلبي ، فلم ارى غيرها من النساء ، وكنت مصرا عليها ، فلم تجدي بدأ من الموافقة لكي لا تخسريني، أعترف لك لقد قضيت معها اجمل اللحظات ، واحلى الايام والشهور ، ولكن النعمة تزول لعدم شكرها،ومرت السنين ، فرغبت النفس بالولد ، فأخذت بفحوصات شاملة لي ولزوجتي ، ولأن عملي كان يحتم علي بالتغيب اسبوعين للعمل و الاسبوعين الآخرين في البيت ذهبت زوجتي وأحضرت الأوراق ..وصدمت عندما علمت بأنني عقيم، وزاد تعلقي بها، لانها رفضت أن تتركني لهذا السبب، واخذت تطالبني وتضايقني بخروجك من البيت ،، فرفضت الفكرة بقوة ، وأحضرت لك خادمة ترعاك ، ولكن زوجتي لم تتركها لك وذلك ما عرفته من العاملة نفسها بعد ذلك فقد استغلتها زوجتي للبيت ، وإذا ناديتها تغافلت عنك وأمرت العاملة بأداء أعمال إضافية ، طعامك أصبح قليل ، لا أحد يدخل عليك الا العاملة إما بطعام او التنظيف واحيانا كثيرة لا ترين أحد لمدة طويلة ، يوما ما أخذتك زوجتي لمكان غريب ، فعرفتي أنها دار عجزة ، ولم تتكلمي ، ولكنك رفضت الطعام ولم تتقبل اي مواساة لحالك، فطلبت الخروج والعودة للبيت ولكن زوجتي رفضت ، فغافلتهم وخرجتي بدون علمهم ، وتهتي في تلك المنطقة الغريبة التي كانت تبعد عن منطقتنا حوالي الساعات ، ولم تجدي لك بد من التوسل للآخرين لاخذك لوجهتك،أحيانا كنت تجدين من ينقلك واحيانا كثيرة لا ..جأني اتصال من خادمتي ، التي غافلت زوجتي واخبرتني بما يحدث معك ،وانك لست في البيت منذ عدة أيام فبحثت في المستشفيات القريبة والمراكز الصحية ومراكز الشرطة ، وعندما طلبت من زوجي معرفة مكانك ، ذكرتني بعقمي؟ وانها صبرت عليي وعلى امي ، فلم أتحمل كلامها وأخذت بلطمها بقوة وأنا أقول لها ‘:
تركتك تعيشين الكذبة التي صدقتيها ، وكنت اصدقها ، لولا ان أنار الله بصيرتي وبصري ، وذهبت للعيادة بنفسي لعمل فحوصات جديده لإجراء خطوات للعلاج ان وجد ، فعلمت أنك أنت العقيمة ولست أنا .
اين امي ؟ اين ؟ وخرجت من البيت في تلك الليلة المظلمة ، ووجدت تجمهر الناس بالقرب من زاوية الطريق فأسرعت متلهفا لمعرفة الخبر …
تعالت الزغاريد والأفراح وأسرع هاني لحضن أمة وهو يقول : الحمد لله الذي امد في عمرك ولم يحرمني جنتك ، وتبسمت الام قائلة : أسعدك الله بابني ، وبارك في ذريتك ، كما اسعدت قلبي ببرك .وابتسمت وهي تزف ابنها لزوجته الجميلة التي أختارتها له بعد طلاقه لزوجته الأولى ، وتمنت لهم حياة سعيدة مليئة بالحب والاحترام .