ظل الحجرات وظلال معانيها
راشد بن حميد الجهوري
هناك حيث الطين بدون نقوش ولا زخرفات، وحيث السقف تنخفض لتعطي الدنيا معنى الرفعة على معاني المادة وترتقي بها في سلم القيم، وتضيق المساحة بين جدرانها لكنها في الوقت نفسه تعطي معاني السعة في القناعة والرضا.
وكأني بالدموع الطاهرة تفيض بها عيون الصحابة لما هُدِمت حجرات النبي صلى الله عليه وسلم لتوسعة المسجد، حتى أخضلوا لِحاهم بالدموع، وقال أبو أمامة: (ليتها تُركت ليقصر الناسُ عن التهافت على الدنيا، ويرون مارضيه الله لنبيه وخزائن الدنيا بيده)، ومع ذلك فإن تلاشيها من على وجه الأرض لا يعني تلاشي ظلالها من قلوب ملايين البشر.
تلك الحجرات التي انطلقت منها أمهات المؤمنين ينشرن الخير والهدى والفضيلة بين نساء المؤمنين، وعلى عتباتها استقبلن السائلات والمستفتيات في أمور دينهن من نساء المهاجرين والأنصار، فكن القناة التي تجري خلالها معاني الوحي وآياته لتصل إلى قلوب نساء المؤمنين، وكن السند لرسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته المباركة.
وبعد: فالحديث عن حجرات النبي صلى الله عليه وسلم يلهمنا الكثير من المعاني التربوية، ويصنع لنا لوحة للحياة الزوجية الفاضلة في كنف زوج كريم لم يبخل بالحب بل كان معينا فياضا به، حيث قال صلى الله عليه وسلم في حق خديجة رضي الله عنها، وهي التي لم تسكن الحجرات ولكن سكنت القلب الكبير العامر بالوفاء: (إني رزقت حبها) ، وجعل معاملة الأهل والإحسان إليهم مقياس الخيرية فقال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) ، نعم، هو الأنموذج البشري الأكمل للزوج الصالح.
وختاما: لم يغب الطابع البشري بتقلباته وظروفه عن حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الغيرة بين نسائه وطلب زيادة النفقة تعبير عن طبائع بشرية ورغبات إنسانية، ولكن شرف الإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستلزم تبعات ومسؤليات، حيث إن عبارة (نساء النبي) فرضت عليهن الاختيار بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها، فكان الخيار الأول بدون تردد خيارهن جميعا، وهكذا هو القرآن يزيل الضباب عن تلك الحجرات لتظهر أنوارها متألقة في سماء القدوة لجميع نساء العالمين، ويكون ظل ذكرياتها الواحة التي تستريح فيه القلوب المتعبة.