نختلف لنختلف ،،، إشكالية الاتفاقات
أحمد بن سالم الفلاحي
يحتوي الكون الذي نحن جزء منه على كثير من المتضادات، بدء من الليل والنهار، والأسود والأبيض، والفقر والغنى، والقحط والخصب، والاستقامة والاعوجاج، وقس على ذلك أمثلة كثيرة في هذه الحياة، ولن تخلو كل جزئيات حياتنا من هذه الثنائية التضادية، وبقدر وجودها، فإنها في الوقت نفسه تشكل أهمية كبرى، أهمية مادية ومعنوية، موضوعية وشكلية، وكما قيل”وبضدها تتباين الأشكال”، هذا الأمر أعلاه هو الصورة الماثلة التي نعايشها منذ بداية وعينا في الحياة، ولذلك نعاملها معاملة كحالة مسلم بها، لا تضيف عمرا، ولا تنقص وزنا، هذا في شكلها الظاهر، أما الحقيقة غير ذلك تماما، بل لها معاني كثيرة، بل هي جزؤ لا يتجزأ من تكوينات حياتنا اليومية، وجزء لا يتجزأ من تفاعلاتنا مع هذه الحياة، ومن لا يدرك هذه الحقيقة فقد فاتته أشياء كثيرة في حياته، بل تصل المسألة إلى تدخل هذه التضادات في تيسيير أمورنا اليومية، وقد تحدد مصائرنا، ومستقبل حياتنا.
والسؤال هنا؛ هل هذه التضادية مقلقلة، أو مربكة في حياتنا؟ الجواب : نعم؛ وإلى حد كبير، حيث من أثر ذلك تسال الدماء، وتزهق الأرواح، وتقطع وصائل القربى، وتنتهك الحرمات، وتدمر الدول، وتهلك الشعوب، وذلك كله يعود إلى الإنتصار إلى أحد المتضادين مجابهة للآخر، وتستعر نيران هذه المجابهة لتصل إلى ذروتها الأعلى، وهذه الذروة هي التي تفقد الإنسان صوابه، وتورده موارد الهلاك والدمار، والتأريخ مليء بمثل هذه الأحداث التي أشعلت نيرانها هذه التضادية، فتحت أسترة كثيرة يكون التبرير لأنتهاك الحرمات، فتحت أجنحة الليل تحاك المظالم والدسائس، وتحت مبررات الغنى والفقر تقام الحروب، وتحت مسميات السلام تزهق أرواح ويعاد بلورة رؤى الدول والشعوب، وتحت ستار الأبيض والأسود تستعر العنصرية بكافة أشكالها وأنواعها، ويدفع ثمن ذلك الشعوب المقهورة، والأنفس الضعيفة، وأيم الله لو استفاقت الإنسانية من غفلتها، وأتاحت لنفسها فرصة المراجعة لأيقنت أن جل هذه المتضادات كان من الممكن أن تكون محطات سلام، ومشروعات إنسانية كبيرة وكثيرة للتوافق، والتكامل، والتواد، والتعاطف، وليس العكس، ولكن هذا هو واقع الإنسانية منذ نشأتها الأولى، ليس لها إلا هذا التضاد المفضي إلى كثير من المآسي، وإلى كثير من التناحر، وإلى كثير من التصادم، في حالة يائسة يعيشها هذا الإنسان، على وجه الخصوص، في هذه الحياة الدنيا.
ومن هنا أيضا أتت مسميات الأقليات، كأحدى التقسيمات الإنسانية الناتجة عن هذه التضادية في الحياة، ولم يوجدها أحد من المخلوقات في هذا الكون، بقدر ما أوجدها هذا الإنسان المكلف بإعمار الإرض، وبتشييد بنائها الكبير إلى أن يجيئ أمر الله (حتى اذا أخذت الأرض زخرفها وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أونهار) واستلهاما من معنى الآية الكريمة؛ أن الإنسان – على الرغم من هذه التضادية – ماض في مشروع بناء هذه الحياة، أقول نعم؛ ولكن على حساب استقراره وأمنه، وعلى حساب راحته وسكونه، هو ينجز في بناءات مادية كثيرة، ولكنه في المقابل يدفع الكثير من قناعاته، ومن إيمانه، وهذه التضادية بقدر أهميتها في إيجاد حالة من التكامل والتوافق، جاءت بالعكس حسب الفهم الإنساني واجتهاداته، حيث أخفق فيما كان يجب أن ينتصر للحق، ولا يخضع للباطل، ولعل في ذلك عبرة لمن أراد أن يعتبر، ولعل في ذلك مراجعتة لمن أراد أن يراجع، ولعل في ذلك لحظة تأمل لمن أراد أن يتأمل ، وتبقى المساحة مشرعة لمن أراد أن يعمل فيها روح العقل والتعقل، وأنزال الروح الإنسانية السامية إلى منازلها الحقيقية.