2024
Adsense
مقالات صحفية

توظيف الأمكنة

أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com

منذ سنوات زرت دولة قطر الشقيقة، وأول ما لفت انتباهي وأنا أخرج من مطار الدوحة الدولي أسم سيارات الأجرة، حيث تحمل مسمى “كروة”، ولأن المفردة ليست بعيدة عن ذاكرة الطفولة، فقد عايشت هذه المفردة، وأنا في ذلك العمر الصغير، عندما كان الكبار يستأجرون الجمال والحمير للتنقل من بلد إلى آخر، أو حتى لحمل أغراضهم وحمائلهم لذات الغرض، فقد كانوا يقولون: “اليوم كاريت فلان لكذا ..” ولم يستخدموا مفردة “يستأجر أو يستأجروا” إطلاقا، وكذلك كانوا يتداولون: “كم كفلتك الكروة من … إلى ..”.
اليوم عندنا في السلطنة عندما استحدثت الشركة الوطنية للنقل حافلات نقل الركاب أطلقت عليها “مواصلات”، ولم تجتهد قليلا للبحث عن مفردة عمانية متعلقة بهذا الجانب وتوظيفها في هذه الخدمة لتسويق المفردات العمانية لدى السائح والمقيم على حد سواء، وفي ذات السياق نشاهد بعد نزولنا من جسر العذيبة وعلى اليمين مباشرة محلا تجاريا كبيرا يطلق عليه “ميرة”، والـ “ميرة” أيضا موجودة في ذاكرتنا الشعبية، ولا تزال عالقة في الذاكرة، فـ “ميرة في البيت”، وذاهب “يمتار من السوق” كلها متداولة عندنا، اليوم نقول: “عزبة”، أقربها إلى مرابض الجمال، و”روشن”، كلمة أجنبية”، وعندما استفسرت عن المستثمر قيل لي إنه من دولة قطر الشقيقة أيضا، وفعلا لما كنت خلال هذه الزيارة شاهدت نفس هذا الاسم في بعض محلات التجارية في العاصمة القطرية الدوحة، بينما جل المحالات الكبيرة عندنا في السلطنة تحمل أسماء أجنبية عوضا أن تكون عربية على الأقل، وما أكثر الأسماء العمانية التي – ما أجملها – لو توجت هذه المحلات بها، تسمية وتجميلا، وتسويقا.

يأتي الحرص هنا على توظيف المفردات المحلية في مثل هذه المجالات، ليتحقق من خلال ذلك ثلاثة مكاسب، وربما أكثر، أولها: المحافظة على هذه المفردات من الضياع، في ظل هجمة العولمة على مختلف مفاصل حياتنا اليومية، وثانيا: غرسها في ذاكرة الطفولة بصورة غير مباشرة، حتى لا تفقد ماضيها بعصرنة حاضرها، وذلك نوعا من الحفاظ على الهوية العمانية، وخصوصيتها المحلية، وثالثا: تسويق هذه المفردات، فهذا الوافد المقيم سوف تترسخ في ذاكرته هذه المفردة ويعرف انتسابها إلى أي مجتمع هو عاش فيه، كما يحدث اليوم عندنا في السلطنة على وجه الخصوص، فلو عمل أحد الباحثين دراسة عن مفردات التخاطب بيننا وبين العمالة الوافدة من شرق آسيا على وجه الخصوص، أقر يقينا، أنه سوف تصل نسبة الذين يكسرون لغتهم لأجل خاطر أن يفهم العامل الوافد إلى نسبة كبيرة؛ ربما تقترب من الـ (50%) فعبارة: “متى في جي، متى في روح، وين في خلي هذا، ما في مشكلة رفيج، ودي هذا تشيكو مدرسة” إلى غيرها من المفردات وهي “القشة التي تقصم ظهر البعير”، كما يقال، دون أن تحرك فيمن يعنيهم الأمر أية طرفة عين.
صحيح أن الأجيال تعيش عصرنتها في أغلب الأحوال، ولا يمكن الرجوع بها دائما إلى نقطة البداية، لكن عندما نتحدث عن الهوية، فالهوية ليست دشداشة وخنجر، فقط، مع أهميتهما، وإنما جميع مكونات المجتمع من مفردات، ومن وسائل، ومن أدوات يتم استخدامها، ومن قيم إنسانية حية، كلها تدعم هذه الهوية، وتصحح مسارات خاطئة في حياة الأجيال، وليس من المعيب إعادة إحياء تألقها من خلال توظيفها في مثل هذه النماذج التي ذكرتها، لأن التغريب أيضا مشكلة كبيرة، حيث يغيّب ذاكرة الأجيال عن هوياتها وقيمها، ولا أتصور أن ذلك يسعد، بقدر ما يؤسف له حقا.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights