الجمعة: 12 ديسمبر 2025م - العدد رقم 2762
مقالات صحفية

لماذا أكتب؟

    صالح بن ناصر المحروقي

أكتبُ لأن الكتابة هي النافذة التي أطلُّ منها على ذاتي، ولأنها المساحة التي تتخفّف فيها نفسي من أثقالها، وتقول ما يعجز اللسان عن حمله، وما دام الإنسان يختبر مشاعره في سرّه، فإن الكتابة تعينه على أن يصوغ هذا السرّ كلاماً قابلاً للفهم، بدلاً من أن يبقى همساً يتلاشى في الداخل.

وأكتبُ لأن في كل واحدٍ منا شيئاً يشبه يقظة الفيلسوف، ومضة تنتظر لحظة الظهور، ومتى لامستها القراءة تحركت، ومتى صاحبها التأمل اتّسعت، ومتى أمدّها التفكير اشتعلت، وما من طريق يوقظ هذا النبض الخفي فينا مثل أن نقرأ، ثم نفكر، ثم نترك أقلامنا تتابع ما بدأته عقولنا.

فالقراءة توسّع المدارك، والتأمل يفتح أبواب الأسئلة، والأسئلة تُلزم العقل بالبحث، والبحث يردّ الإنسان إلى نفسه، ليقيس موقعه في هذا العالم، فإذا طال الوقوف على أبواب الفكر نشأت في القلب رغبة في التدوين، لأن ما يختلج في الداخل لا يهدأ حتى يجد وعاءً يحتويه.

وليس كل من يكتب محتاجاً إلى المرور بمراحل الفكر كاملة، فبعض النصوص تُولد من انفعال صادق قبل أن يمسّها التحليل، وبعضها يسيل تلقائياً، ثم يرتّب العقل ما عجز القلب عن جمعه، وقد يتداخل التفكير والكتابة معاً، فيقود أحدهما الآخر بغير وعي، وهذه مرتبة لا يَبلغها إلا من طالت صحبته للقلم أو وُهب موهبة تُعينه على ذلك.

وكلما ازدحم يوم الإنسان بالشواغل تقلّصت مساحة الإصغاء إلى الداخل، فإذا ظفر بساعة صفاء، ودوّن فيها ما اعتمل في صدره، شعرَ أنه استعاد حقاً كان قد نُزع منه، فالكتابة حاجة تستجيب لها الروح، وتلبّي بها النفس ندائها الخفي.

وما تثمره الكتابة في النفس أعظمَ من أن يُقاس بمعنى عاجل، فهي تُعيد إلى القلب طفولته الأولى، تلك القدرة على التساؤل قبل أن يعلوها غبار العادة وطول المران، وإذا عاد السؤال إلى صاحبه عاد معه العجب، وإذا عاد العجب عاد الإدراك الحقيقي لما حولنا.

وحين تستيقظ هذه الروح الخفية نرى العالم بحدّة تختلف عمّا ألفناه، نرى الجمال الذي كنا نمرّ به دون التفات، ونحسّ بالنعم التي كانت تحيط بنا ولا نكاد نشعر بثقل عطائها، ثم ينشأ من هذا الإدراك صفاءٌ يبدّل طريقة عيشنا، ويرفع عن قلوبنا ما أثقلتها به الرتابة.

صحيحٌ أنّ الكتابة لا تُغيّر العالم دفعة واحدة، لكنها تغيّر علاقتنا به، إذ تجعلنا ألطفَ في إحساسنا، وأعمق في نظرتنا، وأهدأ في حكمنا، وكلما اتسعت المسافة التي نكتب فيها، ضاقت المسافة التي نتوه بها.

ولعل أجمل ما تمنحه الكتابة هو أنها تُعيد إلينا أنفسنا، فنحن إذ نكتب نُفسح للداخل أن يتكلم، ونضع بين أيدينا مرآة لا تكذب، ونمنح حياتنا شكلاً نختاره، لا شكلاً تفرضه الأيام علينا.

ولهذا كلّه أكتب، لأن الكتابة تحفظ ما يتبقى مني، وتُعيد ترتيب ما تشتّت بداخلي، وتُعلّمني أنّ ما يُقال بصدق يسمعه القلب قبل الورق، وأن ما أكتبه اليوم قد يكون عزاء الغد، وقد يكون البداية التي لم أكن أعلم أنني أحتاجها.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights