السبت: 14 يونيو 2025م - العدد رقم 2581
Adsense
قصص وروايات

أم حمد ..

   مريم شملان

 تزوجتْ مُبكراً جداً برجل أكبر منها سناً، وكان معروفاً بين الأهالي باسم “أبو حمد”، وبعدها التصق بها هذا الأسم حتى اختفى اسمها الذي كانت تحمله في طفولتها وبداية شبابها، مضت سنواتها وشبابها وحياتها والجميع يعلم أنها “أم حمد” وهو الاسم الذي يحمله زوجها “أبو حمد”.

تمرّ الأعوام وهي تبحث عن وسيلة من التطبيب والعلاج وما يوصَف لها من كبيرات السنّ وذوات الخبرة وممارسات التطبيب الشعبي، ليأتي حمد، فتكون بذلك الاسم حقيقة لا تضليلاً، وأن يكون حمد واقعاً تستمد منه حُبّ الحياةٍ، وأن يكون لها عَوناً على زمن لا تعلم ما يُخفيه لها، ونوراً لطريق لا يعلمه إلا الله. والأيام التي تمرّ عليها بطيئة، راضية بها ولكن في نفسها رجاء وأمل ليتحقق ما تحلم به.

 كانت تجلس وتفترش حصيرها أمام منزلها كل مساء، والبحر من أمامها، صوته يغدق عليها الفرح والطمأنينة، والمارّة بالتحية والسؤال عن الحال، والجارات اللواتي تجمّعن في حديثً مُؤنس معها بين مزاح وجدٍ وتأكيد وأمل، فأخبرنها عن وجود ما يحقق الأحلام، ويحقق أمان الإنجاب، ولكنه يكون برحلة بعيدة جداً. وبدأت الفكرة تدفعها لتحقيق ما سمعت وما قيل لها وما ترغب به وما تَمنت، وفي وقت مُبكر من أحد صباحات الساحل الجميل، في يوم بارد تنطلق وتمضي إلى رحلتها من إحدى حواري الساحل البحري، وقد حان وقت الذهاب إلى موعد

قد حُدد مُسبقاً، ماضية فيما قد رغبت كثيراً بذلك فيه “أم حمد” وتمنت، عاقدة العزم للذهاب إلى مكان أخبروها عنه بأن النوم بداخله يحقق الأماني ويأتي بالأحلام، لتمرّ “أم حمد” على فتاةً صغيرة للذهاب معها لرفقتها ولتأتنس بها في الطريق، واللتان ستقطعان مسافة الرحلة على سيراً على أقدامهما ذهاباً وعودة، تمضي “أم حمد” والفتاة الصغيرة تُسرع بِخُطاها وتتحمل مشقة الطريق مُمسكة بأطراف “الحضّية” بين مداعبة وضحكات عالية وكلمات وأغانٍ ترددها “أم حمد” وفتاتنا تردد معها، ينتهي النهار بالمرور من

 بين الطُرقات بالمزارع الخضراء وعَبق ثِمار الأشجار المُتكدسة في الممرات المتشابكة بأطراف النخيل والزيتون والأشجار الكبيرة بِثمارها، وصولاً

إلى القلعة التي تقف بشموخها وهي تتوسط السوق، والحُلم في قلب “أم حمد” يكبر، وفتاتنا تجتهد وتُثابر من أجل أن يأتي الحُلم، تقوم بخطوات سريعة و أكثر جدية، مرةً أمام “أم حمد” ومرات كثيرة خلفها مع اختصار الطريق الرئيسي بطرقات صغيرة تتوسط المزارع، تتبعان الطرقات التي تكون معروفة لدى جميع المارة، بدأت الفرحة تزيد من قوة “أم حمد” ويكبر الأمل وحُلمها يُنير لها الطريق، وأملها إنها ستصبح ” أماً” والسعادة تملأ قلبها لهذه الرحلة التي سَيغرس الطمأنينة في روح “أم حمد” لوصولها إلى ما كانت ترغب به، والفتاة الصغيرة التي رافقتها كل تلك المسافة بدأت تُعبّر عن فرحتها بالوصول إلى المكان المنشود، وتتقدم أمام “أم حمد” وهي تقفز ويعلو صوتها بالفرح لرؤية “الجِمبده” التي تتحقق فيها الأحلام وتفوز بداخلها الأماني وإن كانت بعيدة وصعبة، تأمُرها “أم حمد” بخفضْ الصوت حتى يقمنّ بالمهمة على أكمل وجه، عند وصولهما إلى بيت الطين المُغلق وشكلهُ القديم جداً، والذي كان من الخارج يوحي بالخوف مع تساؤلهما: كيف سيكون من الداخل؟ هنا تهمّ “أم حمد” بالدخول وفتح باب “الجِمبده” التفتت إلى الفتاة لتُخبرها بأنها ستدخل، في حين ستكون الفتاة بالانتظار. حتى تنتهي “أم حمد” من الدخول وإنهاء ما أتت من أجله، والنوم بداخلها

لتحقيق وجود “حمد” في حياتها والذي قد تأخر طويلاً، فيما كانت تعيش سنوات عُجاف فاقدة الأمل حتى تكون “أم حمد” والذي تحلم به ليل نهار مثل كل الأمهات، فتحت الباب ودخلت “الجِمبده” وأغلقت بابها بإحكام، والفتاة الصغيرة تجلس على الأرض، تنتظر بخوف وبصمت خشية أن لا تخرج “أم حمد” من تلك الغرفة الصغيرة القابعة في الوادي أو يحدث لها سوء، بدأت المخاوف تنهش صدر فتاتنا الصغيرة الوحيدة، المُلتصقة بحائط، ومن حولها الطين المتناثر في كل اتجاه، والظن السيء بأن “أم حمد” لن تعود منه، وستبقى في الداخل إلى الأبد، وبقيت وقت طويل من الإنتظار حتى شارف وقت الظهيرة على النفاد، وخرجت “أم حمد” وهي بدموع الفرح والضحك في آنٍ معاً، وأشارت لفتاتنا بيدها أن هيا بنا وهي تَمضي بخطوات الأمل وحُلم وفرح مع استمرارها بالحديث بأنها بالداخل وضعت رأسها ونامت وحَلمت بسماع صوت بكاء طفل رضيع، وسماع صرير مهدٍ طفل يتأرجح ذهاباً وإياباً، وبالنذور وتقديم الولائم لتحقيق الحُلم، أقسمت على ذلك أنه سيكون، عادت إلى”الحارة” وكأنها قد نالت ما رغبت به، وأن ما كانت تتنظره طوال هذه الأعوام سيأتي كما ستأتي الأشياء الجميلة التي تمنت أن تنالها منذ زمن بعيد، إن الأماني الكبيرة تدفعنا إلى الاجتهاد والوصول إليها حتى وإن كانت بعيدة المنال ولا نلمس منها أي شيء يُشعرنا أنه واقع، ولم يُعطينا الحُلم سوى وهمْ الانتظار، حتى وإن كان الوصول إلى مُبتغانا لا يمت إلى المُعتاد وليس من الواقع فيه شيء، ولا يصلنا إليه مهما طال بنا انتظاره إلا بقدرة الله الذي بمشيئته يتم ما يشاء، والذي بخوافي النفوس يبقي أحلاماً وأمانٍ، أو أرزاقاً تصل من الله إلينا، والصبر طريق مُهيأ لنا للمضيّ فيه حتى النهاية.

“الجِمبده”: من بقايا معبد يهودي أثري قديم اتخذته العامة لتقديم النذور.

“الحضية”: لباس تقليدي ترتديه نساء شمال عمان يُوضع للزينة والحشمة فوق غِطاء الرأس وبأطرافه يتميز بخيوط من القطن بجميع الألوان.

 

 

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights