رحيل جدي – الجزء الثالث من سلسلة ألا ليت الزمان يعود يوماً

وداد بنت عبدالله الجابرية
في التاسع من نوفمبر لعام 2012، في فجر ذلك اليوم الذي وصلنا فيه خبر رحيل جدي، لا أعلم كيف قوينا على تلك الصدمة التي تلقيناها.
يوم رحيله
بعد الانتهاء من صلاة الفجر، أخبرتنا والدتنا بأن جدي قد توفي في منتصف الليل، وسيأتون به في هذا الوقت، وأن جدتي لا علم لها بأن جدي قد توفي. لا أعلم كيف نزلت علينا قوة الصبر على هذه الصدمة.
في الساعة السابعة صباحًا، تجمعت النساء في منزل جدي -رحمة الله عليه- والجميع يصرخ ويبكي من ألم فقدانه؛ فقد كان رجلًا حكيمًا متواضعًا، بشوشًا، طيب القلب، انتشرت محبته بين الجميع؛ فمن سمع عنه أحبه، والكل يوده، والكل يتمنى الجلوس معه.
كان جدي -رحمه الله تعالى- تالياً وحافظًا لكتاب الرحمن، وكان أيضًا كاتبًا للأشعار؛ ومن بين أشعاره كتب قبل رحيله هذه الأبيات العميقة التي تحمل في طياتها معاني التوديع والإيمان بقضاء الله:
**”تَمَتعْ بِرُقَادٍ عَلَى يَسَارِي
وَنَوَّمَكَ قَدْ يَطُولُ عَلى يَمِينِي
أَلَا يَا نَفْسُ وَيَحْكِ أَخَبَرَيْنِ
حَديثًا صَادِقًا لَا تَكْذِبِينِ
بِأَنَّ الْمَوْتَ مَحْتُومٌ عَلَيْنَا
وَلَوْ عَمَّرَتْ عُمَرَكَ مَنْ سِنِينِي
وَلَوْ عَمَّرَتْ عُمَرَكَ عُمُرَ نُوحٍ
تُكَادُ النَّفْسُ تَعْلَمْ عِلْمَ الْيَقِينِ
وَفَوَّقِي مَنْ يَرَانِي وَلَا يَرَانِي
وَأَخْشَى النَّاظِرَيْنِ عَنِ الْعُيُونِ
فَوَا أَسَفِي إِذَا حَضَرَتْ وَفَاتِي
بَكَى أَهْلِي عَلَيَّ وَغَمَّضُونِي
وَحَطُّونِي عَلَى لَوْحِ الْمَنَايَا
وَمَدُّونِي عَلَيْهِ وَغَسَّلُونِي
فَلَمَّا تَمَّ تَطْهِيرِي كَفَّنُونِي
ثِيَابٌ مِنْ بَيَاضٍ كَفَّنُونِي
وَصَلَّوْا عَلَيَّ وَأَجْمَعُونِي
وَعَلَى الأَكْتَافِ مِنْهُمْ حَمَلُونِي
وَضَجُّوا وَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ يَتَنَاوَلُونِي
وَقَبْرِي أَوْحَشَ الأَقْبَارَ قَبْرِي
فَهَالُوا التُّرَابَ وَدَفَنُونِي
وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ رُسُلِ رَبِّي
فَقَامُوا هُنَاكَ وَقَعَّدُونِي
وَسَأَلُوا مِنْ إِلَهِكَ لَا تَلَجْلَجْ
وَإِلَى دِينِكَ فِي حَيَاتِكَ أَيَّ دِينِي
فَإِنْ وَفَّقْتُ قُلْتُ اللهُ رَبِّي
وَدِينِي دِينُ أَحْمَدَ خَيْرُ دِينِ
نَبِيَّنَا أَحْمَدَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ
رَسُولَ اللهِ أَرْسَلَ بَلْ يَقِينِي
ذُو الْمِيرَاثِ يَقْتَسِمُونَ مَالِي
فَيَا اللهَ سَرِيعًا مَا نَسُونِي
يَمُرُّ أَقَارِبِي جَنْبَاتِ قَبْرِي
كَأَنَّ أَقَارِبِي لَمْ يُعَرِّفُونِي
وَعَلَى الْهَادِي صَلَاةُ اللهِ رَبِّي
وَتَسْلِيمًا عَلَى طُولِ السِّنِينِ”**
«من أشعار المرحوم مبارك بن سيف الجابري»
في طفولته
بينما كان جد والدي يرعى الأغنام، كان جدي -رحمه الله- يرعى مع والده، وكان يقول شعرًا. سمع جدي هذا الشعر وبدأ بتكراره خلف والده؛ وبينما كانوا في منزلهم، كرر جدي ذلك الشعر، فسمعه والده وسأله: من أين لك بهذا الشعر؟ فأخبره بأنه سمعه منه حينما كانوا في المرعى.
خطبة العيد:
في جميع الأعياد التي مرت، كان جدي -رحمه الله تعالى- هو من يقيم صلاة العيد وهو الخطيب. كان ذا صوت جميل وعذب، وكانت خطبه تحتوي على العديد من التذكيرات التي تذكّر الناس بحياتهم وواجباتهم. فبعد رحيله، رحلت تلك الكلمات الواعظة، ورحل ذلك الصوت الجميل الذي كان يلامس القلوب.
الاستشارات:
كان رجلًا حكيمًا، ذا أخلاق وطيبة وعلم. كان حافظًا لكتاب الله وتاليًا له، وكان واعظًا يثق الجميع برأيه ومشورته. لم يتم أي فعل أو عمل في القرية إلا بعد أن أخذ الجميع بمشورته واتفقوا عليها.
حياته مع أحفاده:
كان جدي حنونًا طيبًا لا يفرق بين أحفاده. كان يأخذهم معه أينما ذهب؛ وأذكر موقفًا قال لي فيه رحمه الله بيتًا من الشعر:
_”تعلَّم يا بني ما استطعت وكن أميرًا، ولا تكن جاهلًا فتُبقى حَسيرًا. تعلّم كل يومٍ فردَ حرفٍ؛ ترى الجُهّال كلهم صاروا حميرًا.”_
نظرات الوداع:
أتذكر ملامح وجهه وهو نائم ومبتسم، وكل شيء يغطيه الأبيض إلا وجهه الذي كشفوا عنه لإلقاء نظرات الوداع عليه. تعالت الأصوات بين داعٍ ومُصبر وباكٍ، وذاكرٍ لله؛ فقد رحل ذلك الوجه الذي يألف القلوب ويجمعها، رحل ذلك الوجه الجميل الذي لا تغيب عن ملامحه الابتسامة الرقيقة.
من هنا أختم سلسلتي، ولكن كلماتي لن تنتهي، فالحديث عن جدي طويل جدًا؛ رحم الله أمواتنا وغفر لهم، وجعل الفردوس الأعلى دارهم.