مو فيها القرنقشوه؟

صالح بن خليفة القرني
لست بصدد إبداء رأيٍ فقهيّ، فالفقه في الدين شرف عظيم لا أدّعيه، إلا أنني سأسرد رأياً يحتمل القبول ويحتمل النقض.
إن المتابع لعادات المجتمع العماني يلحظ بما لا يدع مجالاً للشك تغيراً سريعاً فيها، فما كان ينكره أباؤنا منذ فترة بسيطة، أصبحنا نشجعه ولا نجد غضاضة أن نقوم به، فلو أخذنا مثلاً ما يرتبط بالزواج والأعراس وما يحصل فيها من اختلاط وإبراز للمفاتن، لم يكن العمانيون البسطاء يعرفونه في سابق عهدهم، وإن عرفوه بحكم سفرهم واختلاطهم ببعض الشعوب في آسيا وأفريقيا، إلا أنهم كانوا أصحاب أنَفة وعزّة، فترفّعوا عن نقل كل ما شاهدوه إلى بلادهم وأهليهم.
بعد ظهور وسائل القطيعة الاجتماعية والانكفاء على الأجهزة، صرنا نتناقل المحتوى المرسَل لنا دون تمحيص وتفكير ناقد، وصار البعض يقلد دون أدنى محاكمة عقلية، فلا مبرر أن تنقل عادة اشتهرت بها ولاية أو محافظة أو دولة ما إلى بلادنا، فمن أين جاءنا القرقيعان؟ -إلا إذا كنت أنا غير عمانيّ- لجهلي بالثقافة العمانية الشعبية.
نشأتُ في بني هني، بيئة ريفية قروية بسيطة، وأتذكر بعض العادات الجميلة، كالحول حول والتهلول في العشر الأوائل من ذي الحجة، وفعاليات العيد، سواءٌ المرتبطة بالأولاد أو البنات، وما يرتبط بها من ذكريات طفولية عالقة في الأذهان.. وسمعتُ عن التيمينة في ولايتنا العريقة، ولكنني فعلياً لم أعرفها في قريتي على الأقل.
وحينما كبرنا سمعنا في ولايات أخرى عن القرنقشوه، وهي عادة عمانية تقام في 14 رمضان، وتعني “قرقش” أي أعطني، مع تحفّظي على الطريقة التي يقوم بها الأطفال من التجول بين المنازل بهدف جمع الحلوى أو المال، إلا أنها تبقى عادة شعبية عمانية قد تصنف من التراث غير المادي والتي تدلّ على عراقة هذا البلد.
قبل أن ينتصف الشهر الفضيل، ينقسم العمانيون بين مؤيد للقرنقشوه ومعارض لها، فتجد الدعوات بمقاطعتها وأنها ليست لنا “هذي ما حالنا”، وبين متمسك بها باعتبارها مرتبطة بذكريات طفولية لا يمكن أن تُنسى.
وراح البعض يقدم التهلولة بديلاً عنها -رغم أن التهلول للعشر الأوائل من ذي الحجة بحسب معلوماتي- وفيها تسبيح لله وتعظيم له واستشعار هيبة وعظمة تلك الأيام “سبحان الله لا إلا الله إلا الله “، كما قرنها بعضهم بالتيمينة والتي تبدأ ب “الحمد لله الذي هدانا…
آمين، للدين والإسلام واجتبانا …آمين”
إن المُشاهد لهذا الاختلاف يلمح جلياً مدى عراقة هذا البلد وتنوعه الثقافي، فبعد النداءات التي خرجت تنتقد هذه العادة الشعبية “القرنقشوه” لارتباطها بالاستجداء والتجول في القرى والحارات لأخذ المال من الناس، سيما وأن بعضهم معسرون، كما أن الأصل أن تُحفظ كرامة الطفل فلا يعرض لهذه السلوكيات التي تحطّ من قدره، أضف إلى ذلك أن البعض تعمّد تشويه هذه العادة بتقليعات لم يعرفها العمانيون، وأنكروها من مسندم إلى صرفيت.
كما أن التقليد الذي راح البعض ينتهجه دون وعي بالهوية الثقافية لكل محافظة في عمان أصبح مزعجاً، فلا بدّ أن تحترم الخصوصية الثقافية لكل ولاية، بل لكل قرية، فاستنساخ العادات وفرضها على مجتمع لم يعهدها ليس أمراً صحياً. ومن الطبيعي أن نجد مقاومة عالية من المجتمع.
في ذات الوقت، طورت بعض الأسر العمانية التي اعتادت محافظاتهم وولاياتهم على هذه العادة، فلم تشأ طمسها إلى طابعٍ عصريٍّ حديث، فما عاد أطفالها يطوفون المنازل والبيوت، إذ اغتنموا 14 من رمضان وسمّوه بيوم القرنقشوه بتجمُّعٍ أسريٍّ واستفادوا منه بفعالية تُفرح أطفالهم، بعيداً عن أية مظاهر تشوّه عظَمة وجلال الشهر الفضيل، وإذا كان الأمر كذلك فصدقاً مو فيها القرنقشوه؟