صورة لا تنام ..
مريم شملان
كل يوم في تلك الزاوية الصغيرة من المكان المُتسع قليلاً، المليئ بالرفوف الخشبية من الناحيتين، مع ممر لا بأس فيه من الاتساع، يقطن بالبلدة ” الحاج غريب”. كان له” دكان” صغير، وجعل له فيها ” دكة” مرتفعة قليلاً عن الأرض، ومن حَوله رفوف وضَع عليها ما يحتاجه الناس من دقيق، ورز، ومن الزيت والسكر، وما يبحث عنه أهل البلدة ليجدوه معه، وتلك” الدكة” عليها صندوق متوسط الحجم يضعه قريب منه، وهو يستند على متكأ من خشب، وعليه كثير من الكتب والمخطوطات والورق المرصوص بالترتيب. دائماً ينصت لتلك الأخبار والتي تُبث من بلد بعيد جداً، وهو مُلتصق به، وعند سماع أخبار العالم من ذلك الصندوق يبتسم للإنصات له، وأحياناً يبدأ بالحزن وهز الرأس، وكأن في ذلك الصندوق مصيبة قد حَلّت، أو كارثة قد هزت قلبه، لم يكن في دائرة اهتمامي أن أسأله ما الذي يجعله هكذا، ولكن في يوم كنت قد قررت الاقتراب منه لتكون حجتي بأنني في حاجة لبعض الكتب للإطلاع والقراءة. قال لي “هذا ليس للصغار”، وكأنه قد دس السم في حديثه ليبعدني عن عالمه؛ فتبسمت واشتريت ما أرغب به ثم عدت له وأنا المشاكسة التي لا تهدأ روحي حتى أعلم ما سيقول للمرة الثانية، مازحة معه بالسؤال؛ “لأي إذاعة تستمع يا عم؟”، مع العلم أني لم أكن مهتمة لِما كان يَستمع ولكن فقط لإرضاء فضولي الذي كان يحوم حول الكتب التي وضعها بقربه، وكنت أستميت بأن أقتني أو أقرأ من تلك الروزنامة الموضوعة بعناية على ذلك المتكأ ولو كتاب صغير مُهترىء. نظر لي نظرة الشاخص ذو الفراسة القوية المتمعّن، والذي يقرأ الشخوص من خلال الخبرة والزمن الذي قضاه في حله وترحاله وكأنه قد أعجبه الحوار الذي بدأت به؛ فأخذ نقود ما قمت بشرائه، ثم التفت للكتب التي بأسفل المتكأ، ثم يُرييني مجلة لعدد قديم “للشرق الأوسط”.
مَدّ يده وقال: “خُذيها هذه لكِ “، وعاد على متكأه ليستمع لذلك الصندوق، وكان الوقت نهاية المساء، وأذكر تماماً في عقلي وما زالت عالقة كالبصمة تلك الصورة التي كانت على غلاف مجلة “الشرق الأوسط”، صورة تقشعر لها الأبدان؛ لانفجار سيارة مُفخخة في وسط بيروت، والدماء في كل مكان. في تلك الصورة الثابتة والتي كانت تصل لنا وكأنها مقطع فيديو لمصداقية الالتقاط وصحة الخبر الصادم بتفاصيله الدقيقة آن ذاك، وكنت المستقية لأحداث ذلك السيل الجارف من الموت بالشارع العربي من أهل الدار والذي كان لا حديث لديهم إلا عن الحرب،
بدءًا من سيدات قهوة الصباح، ووقت وجبة الإفطار والراحة ما قبل الظهيرة وأول ساعات الصباح، والتي تكون في حدود التاسعة أو العاشرة صباحا، وبالشرح العفوي أن كان بلفظ أو معلومة غير سليمة مع الضحكات التي تأتي لفكاهة الاسم أو الوقوع في لخبطة المعنى، أو بالإذاعة لنشرات الأخبار المُذاعة طوال اليوم والليلة. والذي أذكره بأن صوت المذياع لا ينقطع من منزلنا للتوصيلة العجيبة التي قام بها أخي الأكبر؛ حيث قام بوضع أكثر من سماعة مُكبرة في ” الليوان”، كان قد أنتزعها من سيارات “الجراج البدائي” ومخلفات ما يتم إصلاحة من آلات ومضخات ري وسيارات قديمة في تلك السنوات، والذي كان تحت ظلال الشجر الكثيف في ذلك الوقت أمام منزلنا، والرافد الآخر كان الشباب الذين يعملون بالعاصمة القادمون إلينا بكل حدث جديد، والذين كانوا على اطلاع أكبر بتلك القضية الشائكة، ودراية أكثر بتاريخ المنطقة والسَرد التلقائي والمعلومات التي فيما بعد حفظناها من كتاب التاريخ المدرسي، وكانوا يجتمُعُون نهاية الأسبوع للسهر وللعب الورق، أو الحديث أيضاً عن أحداث الوطن العربي، ونصفه الجريح بالحوار مع الأباء وكبار السن ليلاً على التلفزيون، والذي كان المولد الكهربائي وموصل الطاقة للتلفزيون إما بطارية سيارة أو مولد كهرباء يعمل بالديزل أو البترول، ليمد المنازل القليلة القابعة في تلك البقعة الدامسة الظلام ليلاً، المُبهجة نهاراً بواديها الأخضر وأشجارها الكثيفة في بلدتنا الجميلة.
منذ ذلك الوقت ونحن نجدل خيوط الألم، ونذكر ما قد شهدته المنطقة من مرارة وويلات، وما زالت تلك الأوطان تنزف وتصل للموت وتستيقظ لتكمل مشوار التشريد أو القصف الذي لا يُهلك فيه سوى أطفال أبرياء، ونساء وشيوخ، وأيضاً شباب عاجزين لقلة المُورد والسلاح، والمآسي التي وقعت ما زالت ذكراها تنهش في نفوسنا ممتدة حتى يومنا، وباقية ثابتة بتفاصيلها الحزينة.
١-الليوان: مساحة مُظلة مُتسعة تكون بالمنازل.