من خفايا الذاكرة (دروس في تحفيظ القرآن الكريم)
د. حميد أبو شفيق الكناني
حافظ للقرآن الكريم ونهج البلاغة والمعلقات السبع.
أعود بعد انقطاع كان لا بد منه، وذلك لإتاحة الفرصة للمراجعة والمطالعة والتأمل؛ لأن المعلومات إذا تكاثرت تناثرت وإذا تناثرت تطايرت فما كتب قر وما حفظ فر، وسأبحث في موضوع الآيات المتشابهات، فهذه الآيات هي من المواضيع التي يوليها الحافظون والحافظات أهمية كبرى، تزيد هذه الأهمية عن حجمها وتأخذ مساحة من الفكر والذكر أكثر مما ينبغي، ولو تركنا الموضوع على عفويته و شفويته يأخذ مجراه الطبيعي لما واجهنا كل هذه الوسوسة والهلوسة التي هي بمثابة حرب نفسية تهدد أمن الذاكرة.
إن النقطة الجديرة بالذكر في هذا الموضوع أن الآيات المتشابهات هي جزء من القضية وليست كل القضية، ولكن الحافظ والحافظة يتعاملان معها وكأن لها في كل آية رواية وحكاية، ويعطيانها أولوية وأهمية خاصة،
والأعجب من ذلك أن الحفظة يفكرون ويخططون لموضوع الآيات المتشابهات قبل أن يصلوا إليها، فتسمع من الحفظة الحديث عن ذلك وهم ما زالوا في بداية الطريق، ما زالوا يراوحون في حفظ الأجزاء الأولى للقرآن الكريم، بينما لو عددت الآيات المتشابهات في كل جزء لا تجدها عدداً يلفت الانتباه ولا مشكلة هامة يشار إليها بالبنان، وهنا يتطلب الأمر من الحافظ أن يسير بخطوات ثابتة ولا يستعجل الأمر الذي لم يحدث بعد، حتى لا يتعرض للضيق والحرج بهدف حل العقدة قبل حلول المشكلة، وربما هي ليست عقدة في أصل الموضوع.
(لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) – سورة القيامة الآية ١٦.
(وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) -سورة طه الآية ١١٤.
إن الآيات المتشابهات على أنواع، من أهمها المكررات؛ وهي التي لا تحتاج إلى تركيز ولا تمييز؛ فمن حفظ آية استغنى عن حفظ أختها لأنها مكررة تماماً.
والأمثلة كثيرة بداية من الجزء الأول من سورة البقرة في الآية رقم ٤٧، التي تتكرر في رقم ١٢٢:
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).
وكذلك الآية رقم ١١٠ من سورة هود وقد تكررت نفس الآية رقم ٤٥ في سورة فصلت.
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ).
وربما تكررت عدد من الآيات أكثر من مثنى وثلاث ورباع في سورة واحدة، فيرجى مراجعة سور:
الشعراء: قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ).
الصافات: قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
(وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ
سَلامٌ عَلَى ……… فِي الْعَالَمِينَ
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).
الرحمن: (فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ… )، ٣١ مرة.
المرسلات: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ…)، ١٠ مرات.
ومع اختلاف طفيف في سور أخرى:
الطور ١١، (فوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ).
المطففين ١٠،(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ).
وقد يأتي تكرار المكررات من الآيات في سور متفرقة كما في قوله:
(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
هذه الآية التي تكررت ست مرات في ست سور؛ وهي:
– يونس ٤٨
– يس ٤٨
– الأنبياء ٣٨
– النمل ٧١
– سبأ ٢٩
– الملك ٢٥
والمرة السابعة في سورة السجدة الآية ٢٨ مع اختلاف طفيف:
(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
كان هذا النوع الأول من المكررات تماماً أو الآيات المتطابقة، والنوع الثاني وهو المكرر تماماً مع اختلاف طفيف.
كالمثالين المذكورين وهما:
الإختلاف في حرف كما في سورة الطور الآية العاشرة والإختلاف في كلمة؛ كما في سورة السجدة الآية الثامنة والعشرون.
وقس على ذلك.
والبقية تأتي.