الدَّهْرُ يَبْدَأُ مِنْ دِمَشْقٍ
بِقَلَمٍ: سَالِمٍ بْنِ سُلْطَانٍ العَبْرِيِّ.
ملاحظة في الوقتِ الحاليِّ، قد لا تتَّفِقُ، عزيزي القارئ، مع هذه الكلماتِ، ولكن خلالَ الأسابيعِ القادمةِ، سيَتَّفِقُ العالمُ عليها.
خَرَجَ الأحرارُ بعزيمةٍ وإصرارٍ لا يَتَزَعْزَعُ لتغييرِ مَجْرى التاريخِ، وتحقيقِ حلمٍ طالَ انتظارهُ بإسقاطِ نظامٍ ظلَّ جاثمًا على قلوبِ وعقولِ وأبدانِ السوريينَ لعقودٍ طويلةٍ. لقدْ تَجَسَّدَتْ في مجموعةٍ منَ الشبابِ السوريينَ روحُ التحدي والإبداعِ السياسيِّ من خلالِ التفكيرِ العميقِ والتنظيمِ المُحْكَمِ، والاتصالاتِ الدوليةِ التي أظهرتْ وعيًا سياسيًا استثنائيًا.
لمْ تكنْ هذه الحركةُ مجردَ انتفاضةٍ شعبيةٍ، بلْ كانتْ عملًا سياسيًا مدروسًا قادهُ رجالٌ بحنكةٍ وحكمةٍ. تَقدَّمَ الشَّرَعُ ورفاقُهُ إلى دمشقَ، واختارَ أنْ يُخاطِبَ الشعبَ منْ قلبِ العاصمةِ ومنْ رمزيةِ الجامعِ الأمويِّ، حيثُ ألقى خُطبةَ الفاتحينَ بروحٍ مليئةٍ بالهدوءِ والطمأنينةِ، وهيَ سِمةُ القادةِ العظماءِ. تَحَدَّثَ الشَّرَعُ عنْ مستقبلِ الوطنِ بكلِّ شموليةٍ، مُوجِّهًا رسائلَ الأملِ والوحدةِ بدلًا منْ الكراهيةِ والانقسامِ. لقدْ دَعا الجميعَ، صغيرَهم وكبيرَهم، رجالَهم ونساءَهم، إلى الالتفافِ حولَ رؤيةٍ واحدةٍ لبناءِ سوريا جديدةٍ تُعيدُ أمجادَها كعاصمةٍ للثقافةِ العربيةِ والإسلاميةِ.
لقدْ جاءَ هذا التغييرُ بعدَ أنْ أظهرَ السوريونَ للعالمِ أنهمْ قادرونَ على تحريرِ أنفسِهم بعيدًا عنِ الاعتمادِ على القوى الخارجيةِ. أثبتوا للعالمِ أنَّ إرادةَ الشعوبِ أقوى منْ أيِّ قوةٍ، وأنَّ المستقبلَ يُصنعُ بالإصرارِ والعملِ الجادِّ.
الدولُ الكبرى، وعلى رأسِها الولاياتُ المتحدةُ، رحَّبَتْ بالتغييرِ. حيث أعلنَ الرئيسُ الأمريكيُّ استعدادَ بلادِه لدعمِ الشعبِ السوريِّ في مرحلتِهِ الجديدةِ، مُشيدًا بالقيادةِ السوريةِ الحديثةِ. كما أشادتِ الصحافةُ الأمريكيةُ مثلَ واشنطن بوست بالتغييرِ السلميِّ، وأبرزتْ قرارَ القيادةِ بالإبقاءِ على بعضِ رموزِ النظامِ السابقِ لتسييرِ الأعمالِ كدليلٍ على وعيٍ سياسيٍّ ورؤيةٍ متوازنةٍ.
منْ ناحيةٍ أخرى، حاولتْ بعضُ الأطرافِ الدوليةِ استغلالَ الموقفِ لتذكيرِ العالمِ بدورِ روسيا وإيرانَ في تدهورِ الأوضاعِ السوريةِ خلالَ حكمِ النظامِ السابقِ. لكنَّ الشَّرَعَ ورفاقَهُ اختاروا تَجاهُلَ هذهِ المحاولاتِ، مُرَكِّزينَ على بناءِ المستقبلِ. فقدْ أظهرتِ التقاريرُ، ومنها ما نشرتهُ فاينانشال تايمز أنَّ القيادةَ الجديدةَ كانتْ على تنسيقٍ مُسبقٍ معَ قوى داعمةٍ للتغييرِ، أبرزُها تركيا، مما ساهمَ في تحقيقِ هذا الانتقالِ السلميّ
إنَّ ما يُلفِتُ النظرَ في هذهِ “الثورةِ” هوَ أنها جاءتْ بدونِ أيِّ عنفٍ طائفيٍّ، على عكسِ الثوراتِ العربيةِ السابقةِ. بلْ كانتْ ثورةً سلميةً في تحولٍ حكوميٍّ تاريخيٍّ، حيثُ تمَّ تسليمُ الملفاتِ منْ حكومةٍ سابقةٍ إلى حكومةٍ جديدةٍ بدعمٍ سياسيٍّ كبيرٍ منَ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ. وأكَّدَ وزيرُ الخارجيةِ الأمريكيُّ، أنتوني بلينكن، على ضرورةِ أنْ يكونَ الحُكْمُ السوريُّ شاملاً، معَ احترامِ حقوقِ الأقلياتِ، ودعا جميعَ الدولِ لدعمِ الانتقالِ السياسيِّ وعدمِ التدخلِ الخارجيِّ في الشأنِ السوريِّ.
وفي الوقتِ نفسِهِ، حافظتِ الولاياتُ المتحدةُ على اتصالٍ مباشرٍ بجميعِ الفصائلِ السوريةِ، وعملتْ على مراجعةِ سياساتِها تجاهَ هيئةِ تحريرِ الشامِ، بما في ذلكَ إمكانيةُ رفعِها منْ قائمةِ الإرهابِ. هذا يُعَبِّرُ عنْ الإعدادِ الجيدِ للمشروعِ الجديدِ لسوريا، حيثُ استندَ إلى توافقٍ سياسيٍّ مُحكَمٍ وتنسيقٍ دوليٍّ لضمانِ انتقالٍ سلميٍّ ومستدامٍ.
لقدْ شَهِدَ العالمُ في هذا التحولِ الجديدِ تحريرَ السجونِ التي كانتْ لعقودٍ طويلةٍ تحتجزُ الأبرياءَ منَ الفقراءِ والنساءِ والأطفالِ، وهوَ دليلٌ صارخٌ على الظلمِ الذي عانى منهُ الشعبُ السوريُّ. هذهِ المشاهدُ وحدَها كانتْ كافيةً لإشعالِ هذهِ الثورةِ العادلةِ، التي خَلَّصَتْ هؤلاءِ “المساكينَ” منْ قيودِ الظلمِ والاستبدادِ.
وفي هذا السياقِ، نجدُ في القرآنِ الكريمِ آيةً تحملُ معانيَ عميقةً تعكسُ عدالةَ اللهِ ونُصْرَتَهُ للمظلومينَ، حيثُ قالَ اللهُ تعالى:
“وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلُها فمنْ عفا وأصلحَ فأجرُهُ على اللهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظالمينَ، ولمنِ انتصرَ بعدَ ظلمِهِ فأولئكَ ما عليهِمْ منْ سبيلٍ، إنَّما السبيلُ على الذينَ يظلمونَ الناسَ ويبغونَ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ.”
هذهِ الثورةُ ليستْ مجردَ تغييرٍ سياسيٍّ، بلْ هيَ نقطةُ تحولٍ اجتماعيٍّ وأخلاقيٍّ نحوَ بناءِ دولةٍ تُعَزِّزُ حقوقَ الإنسانِ، وتَصُونُ كرامةَ شعبِها، وتُعيدُ بناءَ مستقبلِها على أُسسِ العدلِ والمساواةِ.
سوريا اليومَ أمامَ فرصةٍ جديدةٍ لإثباتِ قدرتِها على النهوضِ منْ تحتِ الرمادِ، مُتَجاوزةً الألمَ والمآسي، لتُصبحَ نموذجًا يُحْتَذَى بهِ في المنطقةِ والعالم. يقولُ الشاعرُ نزارُ قباني”كلُّ يومٍ أتلو صلواتي وأبتهلُ
أنتِ دمشقُ.. أُمي.. أنتِ زهرُ العسلُ”
فلتكنْ دمشقُ اليومَ نقطةَ انطلاقٍ جديدةٍ نحوَ مستقبلٍ مُشرقٍ، ولتكنْ رسالتُها إلى العالمِ رسالةَ سلامٍ، وعطاءٍ، وإبداعٍ. ولتُثبِتْ للعالمِ أنَّ الدهرَ يبدأُ من دمشقَ.