إلى امْرَأة في المِرآة ..
سلطان بن سالم المعمري
نسَجَتكِ المرايا حكايا القاتل والقتيل.
الشاهد والشهيد.
عندما غزلك الشهيد بأهداب كفنه،
كنتِ ناصعة البياض.
بدنٌ ثُلاجيّ ككريستال بوهيمي.
سَرَى صوتكِ أغنية الربيع.
أكان حقاً أن يعريكِ انعكاس حبّي في المرآة!
جمعتي العالم،
كل العالم، ليشهدوا الطُوفَان
وهو يبللُ أجساد الأطفال بقطرات الندى.
مُنْذُ منَحكِ الماء سرّه سكنتي جوف الصخور.
أعطيتي للموت معنىً،
وللحياةِ سَيْرورَة النشوة.
وللحبّ وادياً من الخمر.
يَا امْرَأة الرِقَّة، يَا قمحيّة العينين.
ازرعي أقماح أصابعي في الغابة.
تنمو وحدها تحت شمسكِ الذهبية.
طائرٌ ما مرّ مُصادفة مع الريح،
فرَّد جناحيّه واستظلت الغيوم هُنا.
هطلت السماءُ حزناً على اليباب،
على البيادر والسُّهُولِ،
يقطف الفلاّحُ حصاد التعب؛
ليأكل سنينهُ العَوْجَاء.
وحده الفلاّحُ يَكسرُ مِرْفشته.
أفتقدكِ،
مثل غريبٍ غادر المدينة.
مثل نبيٍّ أدْمَى حزنهُ الحيارى.
تعالي نجثو على رمالٍ بيضاء،
نصفف مصفوفة الذكريات،
لأنكِ تغلغلتِ في جسد الذاكرة، بلا فكرة طريدة.
لأنكِ الأجنحةُ المفقودة
لفراشاتٍ أشعلت نار الفَتِيلَة.
أفتقدكِ،
سماء انسدلت عنها الغيوم الممطرة.
وأحرقت شمس الظهيرةِ شوقي.
أمسى قاتلي يجرّدُ أثواب بؤسي من كلِّ طوية.
آتٍ إلى الموت، بحثاً عن العراء العاري.
آتٍ مع الغزلان الريفية لكيلا
يخدش صوتي فضاءك الآزِم.
أميرتي لا تشبه الأميرات
بهِنْدام فيكتوريّ،
وشعرٍ أسودَ كلون عينيّ الواسعتين،
وجسدٍ سمهريّ يفجرُ الإِهَاجة،
لأنكِ الساجيّة بمنزلة القمر،
في شهوة الشتاء
غزلتِ ربوة القنابِل بيديك النحيلة.
وقذفتي المَسِيل بقنبلة من القبلات،
فاَنفجر الصباح في السَّحَر نوراً، تشكّل من كواكبك،
وسَلاّلِ النجوم قفزت من السماء على هيئتك
يَا أزليّة الوجودِ، سأكون هديرك الثَّائِب.
سأكون الخيالَ الذي يفسدُ المجاز.
المدينةُ الحالمة كأوراد العاشقين للعاشقات.
سأكون الرصاصة التي تقتل الموت.
ولا أقتل أنا الموت.
تعرفني القُرى الخَرِبة بالوضاعة.
لمّا هاجرتِ الطيور حقل الحقول.
وَاِنْتَفشت الفزاعات أكواخ القشّ،
وصنعتني الفزَّاعَة رجلاً يغرقُ الطين برجليّه،
ويكسر الصخر بالهواء،
ويدخن أعضاء الكآبة حتى تسودّ رئتيه.
تحترقُ أعوادُ أحزانهِ عوداً عودا.
أرمي الجَمْرات الباردة على صقيع البراكين.
وأحتمي من نيران الشوقِ.
تعرفني النافذة حزن الغروب حينما هربت الأحصنة البيضاء.
اسطبل الحروب
كان لي هُنا قبرٌ، مات جسدي فيهِ..
كان لي هُنا عمرٌ ضاعت أعماري فيهِ.
كأنما أموتُ بلا وطن يحييني وأحييهِ.
تعرفني شِراك البلايا حبرٌ ومقصلة.
آثام العالم إثمي.
أنا من وطئ فسائل القمح لأكسر البندقية،
وأعلن للموتِ مسرى الشهيد.
العدوِ كسر القيود،
والتابوت جنائز رسائل العشَّاقِ.
أجوع أنا وحيّنا من رغيف القهر.
طِفلةٌ فقدت عينيها في المعركة.
نامت فهربت عينيها خوفاً من الموت، الخوف.
قالوا لها ستعود بعد عامٍ أو عامين.
قالوا لها لون البحر أحمر، والسماء أبيض،
وعينيكِ نجمتين.
الجندي الذي مات غرقاً
كان مخنوقاً بساق زهرة
طِفلةٌ سُرقت منها قطعة حلوى.
ونبت الدهر في يديها حسرة.
نسجتكِ المرايا شواهِد الزمان، وعَذَابات مواسم – تاريخ الأحزانِ –
يَا اِمرأة عَبْهَرَة [1]
أنا من خسرتُ نُبُوءَة السفينة،
وغرقتُ في الطُوفَان طافياً
على أَطْلال سفينة نوحٍ.
أنا ”الديموزي” الذي ربح الخسارة.
بعد أن ربحت مُقَامرةُ الشَّجن، بعتُ أوردتي إلى سوق الجَوْهَرة،
فتزين جسمك المَمْشُوق بأنهار المَجرَّة.
اعتمرتي قُبّة المقدس،
ورفعتي راية السفينة البيضاء استسلاماً.
إلى ضوء الشفق
كانت السماء جدولاً تصبّي فيه جمالكِ.
كانت المدافعُ محشوة بأجرام النيازك.
وتدكّ حصون الرَعاع.
تسمعين أصوات نحيبهم الحِرَّة
وتمسحين بيديك خوف العالم
عندما خاف السقوط في الهاوية.
لم ينتهِ حبُّ قيامتكِ بعد،
لأنكِ استرسال النجوم، عرَّفتِ التائه عن موقعه،
و المُجاهِد الثائر مصيره الآتِ.
وعن حقيقتكِ: أنتِ فتاة الزَهْو والزَهر،
أنتِ، أنتِ هِبة المَدائن، يسيرُ إيّانا إلينا.
خرائطُ العوالم البيضاء أسْفَار الشَّرِيعةِ.
كنتُ مدينتك المنكوبة بقبلتكِ.
وعندما كنتُ مَخْمُوراً أترّنحُ من فرط الحزن،
غفرتي لنهر الحزن مجراه.
كنتُ المهاجر المخذول من ثقل الوطن.
ينبُذني من بطنه المتحجر إلى ياقتكِ.
أتعلمين أين يذهب موتى الأحرارِ في الخريف؟
عند بابكِ.
أتعلمين أيُّ قسوة يهاجر الغريقُ قبرهُ؟
عندما تطرقُ النَواقِيس إلى الصَّلاة.
أتعلمين عندما تلتمع شَرار السيوف نكاية للثَوْرة،
يعمُّ السلام في الحرب،
ينتصرُ المهزوم،
وتتطاير قصاصات الأزهار في المدينة،
ويعود المهاجر المخذول إلى وطنه.
أيتها المنحوتة من حجر السيلينيت.
المنقوشة على جناحيّ الترقوتين.
أيتها الفراشة المسافرة بين أتلال الربيع.
أيتها المهددةُ بانقراض النايات.
يا من تصيّرين أقْياظ الصيف إلى ثلوج الشتاء.
والبذرة إلى وردة.
الشوكة إلى قَصْلة.
والحلم إلى يقظة.
والقِبلة إلى قُبلة.
مثل حمم الشبق.
يا منُ تَحِيكين الجسد عن الجسد.
مثل إبرة الحياكة.
أحبكِ،
مثل العود الذي يقتل أوتاره.
نسجتكِ المرايا أشراط الطفولةِ.
عربك البِلَّوْر بياضهُ الصافي
عن انعكاسِ عين الدِلبِة[2]
كيف لا أشاهدك من قعر الحب؟
ونظراتُ عيناي لك نظرة الغريق.
كان تجلّيكِ للجبلِ آية، فُتنت بِك.
– يَا أَرْضُ ابْلَعِي – خليلك، وَيَا أَرْضُ أَزْهريهِ.
لكِ غمازتان مرسى القُبل،
كيف انْضَوى إلى نبلة روح الطين، وأنا غَبْرة الفراشة؟
كيف يراني الوجودُ الفارِع
بعد أن فرّرتُ كالمسيح من دم البراءة؟
لأنك المَناجِل قطعتِ حبل قناديل السماءِ.
عن ليالٍ نامت فيها عيون البومة.
لأنك البحر، كُل البحر أغرقتي الأرضَ.
جوف الرغبة
ولأنني براءة الملائكة،
أسرفتُ في السُكر والشِّعر والفتنة.
______
[1]: عظيمة الخلق يصاحبها جمال.
[2]: ”مَعبَد عين الدِلبِة هو واحدٌ من عِدَّة مَعابد رومانية، تَنتَشِر على ضِفاف نهر ابراهيم، وهو مَعروف بإسم مَعبَد المَشنَقَة”
[3]: ديموزي (تموز): ” إله الزراعة والرعي (النباتات والماشية) كان اسم تموز مرتبطا باسم الإله أبسو البابلي، وهو كبير الآلهة وإله المياه، وكان يشار إليه بـ تموز أبسو، والذي يعني ابن الإله”.