لا تحكم على الكتاب من غلافه: درس في الاحترام والإنسانية
ناصر بن خميس السويدي
في حياتنا دروس لا تُدرَّس في المدارس ولا تُلقَّن في الجامعات، بل تنقشها الأيام على صفحات أعمارنا. إنها الدروس التي تأتي من تجاربنا اليومية ومن مواقف تضعنا أمام مرآة أنفسنا، لنتعلم كيف نفهم الآخرين ونتعامل معهم. أحيانًا نجد أنفسنا في دائرة الاتهام ظلماً، ولكن عندما تنكشف الحقيقة، يتحوّل الظالم إلى نادمٍ، وقد يحاول تصحيح خطئه بعد فوات الأوان. لهذا السبب، فإن التعامل بلطف واحترام مع الجميع هو مفتاح القلوب والأرواح.
تذكرت هنا قصة حدثت في أحد المستشفيات الكبرى، حيث كان أحد الأطباء الاستشاريين المرموقين يمشي بسرعة في ممر المستشفى. وبينما كان منغمسًا في أفكاره، تعثر واصطدم بجانب ممرضة كانت تسير بعجلة هي الأخرى. لم تتعرف الممرضة عليه، ولم يكن شكله يوحي بمنصبه المرموق، فاندفعت غاضبة، وضربته على كتفه قائلة بحدة: “انتبه إلى خطواتك! هذا ممر عمل وليس مكانًا للركض!”. ثم تركته وذهبت غاضبة، دون أن تعطيه فرصة للرد.
بعد دقائق، وصلت الممرضة إلى قاعة المحاضرات الرئيسية في المستشفى. كانت قد استدعيت لحضور جلسة تدريبية مهمة، وبدت مشغولة بتحضير ملاحظاتها. وفجأة، وقف الجميع وصفقوا بحماسٍ لرجل يدخل القاعة بخطوات واثقة. رفعت الممرضة عينيها لتجد نفسها أمام نفس الشخص الذي وبخته قبل قليل! نعم، لقد كان الطبيب الأكبر في المستشفى، والمشرف الرئيسي على تدريب الأطباء والممرضين. كان الموقف صادمًا لها إلى درجة أنها كادت تسقط من كرسيها خجلًا.
وقف الطبيب أمام الجميع، وبدأ حديثه قائلاً بابتسامةٍ: “الحياة مليئة بالدروس، وأهمها أن نحكم على الناس من أفعالهم، لا من مظهرهم. تعلمت اليوم درسًا جديدًا، وأتمنى أن يكون هذا درسًا لكم أيضًا. فالاحترام هو القاعدة الذهبية التي يجب أن نحملها معنا دائمًا.”
كان لكلماته أثر عميق، ليس فقط على الممرضة، بل على الجميع في القاعة. أما هي، فقد أسرعت إليه بعد انتهاء المحاضرة لتعتذر بخجل عميق. ولكنه، بابتسامة أبوية، قال لها: “لا تعتذري، فقط تذكري أن الحكم على الآخرين لا يكون أبدًا بمظهرهم. نحن هنا لنخدم الناس، مهما كانت مواقعنا.”
هذا الموقف ليس فقط درسًا لتلك الممرضة، بل لنا جميعًا. فهو يذكرنا بأن نتحلى دائمًا بالتواضع والاحترام، وأن نتأنى قبل إصدار الأحكام. الحياة قد تضعنا في مواقف مماثلة، فكيف نريد أن نُعامل؟ الإجابة واضحة: نريد الاحترام واللطف، فلنمنحهما لمن حولنا دائمًا.
كان ذلك اليوم نقطة تحول في حياة الممرضة. لقد غادرها الخجل واستبدلته بعزيمةٍ على تغيير أسلوبها في التعامل مع الآخرين. بدأت تتعلم كيف تتأنى في حكمها، وكيف تعطي كل شخصٍ حقه من الاحترام، بغض النظر عن شكله أو وضعه. أصبحت أكثر حرصًا على أن تكون ابتسامتها هي أول ما تقدمه لكل من يمر بها في الممرات.
أما الطبيب، فقد استخدم تلك الحادثة كقصة يرويها في جلساته التدريبية، ليعلم الجميع درسًا عميقًا عن التواضع والتعامل الإنساني. كان دائمًا يقول: “في عالمنا الطبي، المعرفة والمهارة مهمتان، لكن الإنسانية هي التي تصنع الفرق. حينما نحترم الناس دون معرفة خلفياتهم أو مناصبهم، نصنع بيئةً إيجابية للجميع.”
هذا الموقف أيضًا يوجهنا إلى فكرة أعمق: الحياة مليئة بالمفاجآت، وقد تُظهر لنا الأشخاص الذين نظنهم عاديين على أنهم أصحاب قيم كبيرة وأدوار عظيمة. لذا، لا تجعل المظاهر تخدعك، ولا تجعل اللحظة العابرة تُنسيك قيمة اللطف. فربما الكلمة الطيبة التي تقولها اليوم تكون سببًا في تغيير حياة شخص غدًا.
الخلاصة:
الحياة مليئة بالمواقف التي تحمل في طياتها دروسًا خفية. قد نواجه أحيانًا أشخاصًا أو مواقف تبدو عادية، لكنها تحمل خلفها قصصًا لا نتوقعها. هذه القصة ليست مجرد حادثة بسيطة بين طبيب وممرضة، بل هي مرآة تعكس حاجة الإنسان إلى التواضع والحذر من الأحكام السريعة.
كل منا قد يجد نفسه في مكان تلك الممرضة يومًا ما، يحكم بناءً على الظاهر فقط، ليفاجأ لاحقًا بأن الحقيقة أكبر وأعمق مما تخيل. وربما أيضًا نجد أنفسنا مكان الطبيب، نصطدم بأحكام الآخرين السريعة ونواجه سوء فهمهم. لكن العبرة ليست في الموقف نفسه، بل في كيفية تجاوزه.
هذه الحكاية تذكرنا أن الاحترام واللطف هما مفتاح التعامل مع الجميع، مهما كان مظهرهم أو مكانتهم. فالحياة لا تقاس بمن أنت الآن، بل بكيفية تعاملك مع من حولك. تعامل بلطف دائمًا، لأنك لا تعرف متى تكون لحظة بسيطة سببًا في تغيير قلب، أو ربما حياة بأكملها.
وفي النهاية، يبقى الدرس الأكبر: احترم الناس كما تحب أن تُحترم، ولا تجعل سرعة الأحكام تُبعدك عن رؤية جمال أرواح الآخرين.
وتذكر دائمًا:
“ما أجمل أن تعطي كل من تقابله في حياتك احترامًا، حتى لو لم تكن تعرف من هو حقًا. فالإنسان لا يُقاس بما يظهر، بل بما يُخبئه قلبه.”