صرخات مريم .. (قصة قصيرة)
سليمان بن حمد العامري
هل قمتم بإخراج الجميع؟ لا، لا زالت هناك فتاة صغيرة لم نجدها حتى الآن، قد تكون تحت الركام، وهي على قيد الحياة!
اسمي مريم… أعيش في غزة العزة، عمري تسع سنوات، في قرية صغيرة تشبه الجنة، حيث تتشابك الأشجار لتصنع ظلالًا جميلة، والأرض تعانق السماء بلونها الأخضر. كانت قريتنا مليئة بأشجار الزيتون والعنب، تلك الأشجار التي كانت جزءًا من حياتنا اليومية. كنا نتسابق أنا وأصدقائي تحتها، نقطف الثمار ونضعها في أكياس صغيرة نُخبئها كما لو كانت كنوزًا.
كان أبي يقول دائمًا إن الزيتون في أرضنا مثل الذهب، وإنه رمز لسلام قريتنا. كنا نعيش بسلام، أو على الأقل كنا نظن ذلك. لم نكن نفكر في الحروب أو الخراب. كان همي الوحيد أن أتعلم أشياء جديدة في المدرسة، أن أحفظ دروسي، وأعود للعب مع إخوتي وأصدقائي عند العصر.
أصدقائي في القرية كانوا كالإخوة لي. كنا نجتمع كل يوم عند شجرة كبيرة وسط الحقول، نسميها شجرة الأحلام. كنا نحكي لبعضنا عن أحلامنا؛ أنا كنت أريد أن أصبح معلمة، أساعد الأطفال على تعلم القراءة والكتابة، وأفتح مدرسة كبيرة في قريتنا. كانت صديقتي آية تريد أن تصنع أكبر مزرعة عنب في القرية. كنا نضحك ونتخيل كيف ستكون حياتنا عندما نكبر.
والدي كان يعمل في الحقول. كان قويًا وطيب القلب، يحب الأرض ويعاملها كأنها أحد أبنائه. أمي كانت تعمل معنا أيضًا، تصنع الطعام وتجمع الزيتون. كانت تقول دائمًا إن العائلة أهم شيء في العالم، وإنه لا قيمة للحياة دون الحب والأمان.
ورغم ذلك، كان خلف هذا السلام غيمة سوداء، غيمة لم أكن أفهمها تمامًا. كان الكبار يتحدثون بصوت منخفض عن شيء يسمى الاحتلال، وعن خطر قد يأتي يومًا ويأخذ منا كل شيء. لم أفهم معنى هذه الكلمات، لكنها كانت تجعل والدي يبدو قلقًا، وأمي تُكثر من الدعاء في صلاتها.
وفي بعض الأحيان، كنت أستيقظ ليلاً على صوت والدي يتحدث مع أصدقائه. كانوا يتحدثون عن جنود يقتربون من القرية، وعن أصواتٍ غريبة تُسمع من بعيد. لكنني كنت صغيرة، ولم أكن أستوعب أن هذا القلق قد يتحول إلى حقيقة قاسية.
وفي أحد الأيام، بينما كنت ألعب مع أصدقائي في الحقول، سمعت صوت طائرات بعيدة. توقفنا جميعًا ونظرنا إلى السماء. كانت الطائرات تبدو وكأنها تتحرك ببطء، لكنها تركت شعورًا ثقيلًا في قلبي. سألت أصدقائي: هل هذه طائرات حرب؟ لكنهم لم يجيبوا. عدنا إلى بيوتنا ونحن نشعر بالخوف، رغم أننا لم نفهم تمامًا ما يحدث.
وفي يوم السابع من أكتوبر، استيقظتُ على صوت لم أسمعه من قبل. كان صوتًا غريبًا، قويًا، وكأنه يريد أن يمزق السماء. ركضت نحو النافذة الصغيرة في غرفتي، ورأيت السماء مظلمة بالدخان، والأرض تهتز تحت قدمي.
صرخت: أمي! أمي، ما هذا الصوت؟ هرعت أمي نحوي، وجهها شاحب وعيناها مليئتان بالخوف. أخذتني بين ذراعيها وقالت بصوت يرتجف: لا تخافي يا مريم، الله معنا.
خرجنا من البيت ونحن نحمل بعض الأغراض القليلة التي تمكنا من جمعها بسرعة. كنت أسمع أصوات صرخات من حولي، وأرى الجيران يركضون في كل اتجاه يبحثون عن مكان آمن. كانت السماء مغطاة بالدخان الأسود، والمنازل التي عرفتها طوال حياتي بدأت تسقط واحدةً تلو الأخرى.
أمسكتُ بيد أمي بقوة، وخلفنا كان أبي يحمل إخوتي الصغار. كنا نحاول الوصول إلى مكان بعيد عن القصف، لكننا لم نكن نعرف إلى أين نذهب. فجأة، حدث انفجار قوي، شعرت وكأن الأرض قد انشقت تحتنا. سقطتُ على الأرض، وكل شيء من حولي أصبح ضبابيًا. وعندما فتحتُ عيني، لم أعد أرى أحدًا حولي. كنت أبحث عن أمي وأبي وإخوتي، أنادي بأسمائهم، لكن الرد الوحيد كان الصمت. الدخان ملأ المكان، والهواء أصبح خانقًا. حاولت الوقوف، لكنني شعرت بألم شديد في قدمي.
رأيتهم أخيرًا، كانوا هناك، مستلقين بهدوء تحت شجرة زيتون مكسورة. حاولت الوصول إليهم، لكني شعرت بأنني لا أستطيع. كنت أنادي: أمي، أبي، أجيبوني! لكنهم لم يتحركوا. كنت أرى ملامحهم، وكأنهم نائمون. حاولت أن أقترب أكثر، لكني شعرت بأنني أصبحت خفيفة، وكأن جسدي قد ترك الأرض، وأدركت حينها أنني لم أعد على قيد الحياة.
لم أعد موجودة في ذلك المكان. رحل أبي وأمي وإخوتي جميعًا، ورحلتُ أنا أيضًا. أصبحت روحًا تحلّق فوق قريتنا. رأيت كيف صار كل شيء دمارًا، كيف تلاشت الحياة التي كنا نحياها. لم يبقَ من أشجار الزيتون سوى الجذور المحترقة، ولم يبقَ من البيوت سوى الحجارة المتناثرة. لكنني كنت هناك، أراقب.
أنتم تقرؤون كلماتي الآن وأنا تحت ركام جسد بلا روح، لأنني أريدكم أن تعرفوا ما حدث لنا. أريدكم أن تحكوا قصتنا لكل جيل يأتي بعدكم. نحن الذين فقدنا كل شيء، ولم نفقد إيماننا بأن الحق سيعود يومًا، وأن الظلم لن يدوم. وسوف نلتقي يومًا أمام الله، سأشكو له كل من تخلّى عنا. سأشكو له أولئك الذين رأوا الظلم ولم يتحركوا. لكنني سأخبره أيضًا عنكم، عن كل من استمع إلى صوتي، ونقل رسالتي، وحمل ذكراي.
لا تنسوا مريم، الطفلة التي كانت تحلم بأن تصبح معلمة، وأن تعيش حياة مليئة بالحب والسعادة مثلها مثل أي طفل في العالم. وهناك كثيرون حتى الآن مثل مريم، فأنقذوهم قبل فوات الأوان.