سيكولوجية الجريمة (3)
د. سعود ساطي السويهري
أخصائي أول نفسي
في هذه المرحلةِ الثالثة والأخيرة من سلسلة الحديث عن الجريمة – ذلك الموضوع بالغ الأهمية والاهتمام – يدور حديثنا حول دائرة الحلول والوقاية من الوقوع فريسة الجرائم وتبعاتها، تلك القضية السيكولوجية المزدوجة بالضرورة؛ التي يرتبط بها الضمير الواعي، وفي نفس الوقت ضمير اللاوعي وخوارق الشعور، فعقاب المجرم أمر مزعج ومحيّر للمجرم نفسه وللمجتمع، ومرجعها ضميريٌ بَحتٌ، مابين الردع وقسوة القلب، وبين روح النظام، وروح الإنسان وعمق الموضوع وتحكيم العاطفة مع العقل، وهم أجزاء لا تتجزأ من القضية، وهنا مربط الفرس وبيت القصيد.
إن الاعتبارات النفسية للإنسان إنما هي أساس في الوجود الإنساني، فالنظرة النفسية الممتدة لتاريخ الحالة وتسلسل بنائها، كالشجرة التي بات صاحبها يلاحظها وهي تترعرع وتثمر وتنضج؛ وإذ بها من عوامل بيئية فيزيقية وبشرية وضرورية فقدت ثمارها (صوابها) وأضرت بغيرها، وقد يكون ذلك بلا مقصد منها ولا سبق إصرار، بل حكمت عليها الظروف والتغيرات وجعلتها موضع المحاسبة، وقد يكون الحساب أولى لظروفها التي أحاطت بها، وجعلتها مُجرمة، فالكأس لا يمتلئ من نقطة ماء، والإنسان قد لا يغضب من كلمة واحدة؛ فالحقيقة أنها تراكمات بُنيت بعضها فوق بعض، حتى صارت جبلاً من الأحمال التي لا تطاق، ومن البديهي أنه حين تسنح الفرصة للخلاص، فلا مفر ولا مهرب، ومن المتوقع حدوث ما لا نحب أن نسمعه أو نراه.
ومن هذا المنطلق كانت الرؤية النفسية- وهي الأساس- لإيجاد أفراد صالحين مطمئنين هادئين متوازنين نفسياً وعقلياً ووجدانياً؛ لا تسترعيهم ضغوط ولا يقسمهم قنوط، وسبيل ذلك هو وجود آباء وأمهات قدوة في التعاملات والمعاملات، يتّسمون بالرشاد، والقدرة على التعامل مع مجريات الأمور بحكمة ورويّة، وصدق من قال: أنه لا يوجد أبناء مضطربون، بل يوجد آباء مضطربون، فالأطفال والمراهقين والشباب هم امتداد لطريق طويل من المعاملات الوالدية وتكوين الشخصية التي يُنتظر منها إما جدية وحياة كريمة، أو ضياع وشقاء وجريمة.
ومن الأسرة إلى المجتمع والعالم الخارجي؛ إذ يقع على عاتق المجتمعات مسؤولية لا تقل عن مسؤولية اللبنة الأولى (الأسرة)في تبنّي الأفراد وتحديد مصائرهم، فمَواطن الضعف الاجتماعي والمجتمعي والاقتصادي هي مؤثرات خطيرة في عالم الإجرام ، ولا يفوتنا دور جماعة الرفاق، فالصاحب ساحب، فإما أن يجرّ الصاحب صاحبه إلى الصواب، وإما أن يوقعه في الهلاك وويلات الضياع وغياهب السجون.
ولعلّ القارئ الآن يسأل عن الحلول والوقاية بعد كل هذا التفنيد؛ والحقيقة أن كل ما سبق هو الحلّ والوقاية ذاتها، فما نشأ طفل في بيوت متوازنة ترعى المشاعر والأحاسيس، وتقدّس العواطف، وتحترم الرأي والتعبير، ولا وُجِد مجتمعٌ يرعى الإنسان في إنسانيته، ويقدّر مقدّراته، ويفخر بأبنائه ؛ إلا وقد نشأت أجيال تحمل العقول الواعية، وتدفع وتنبذ كل ما هو غير أخلاقي، وطالما أصبح الإنسان مشبع لاحتياجاته النفسية ووجد ضالّته؛ إلا وقد نبذ الخلاف أو التعصب أو السطو على الغير، وكذلك ما وُجدت جريمة على وجه هذه الأرض، ولعلّ الحسد والحقد والعدوان هابيل وقابيل خير مثال ودليل.
ومن أهم سُبل الوقاية من الوقوع في الجريمة:
تحقيق عامل الأمن النفسي والطمأنينة؛ فالشعور بالتهديد والرغبة في البقاء والخوف من الموت قد يدفع الإنسان لفعل ما لا يمكن أن يتخيله عقل بشري، والحقيقة أن التركيز على عامل الردع وحده للوقاية من الجريمة لا يُجدي، إذ هو بمثابة التخويف الذي قد يؤذي البعض من ضعيفي الشخصية، وقد ينعكس سلباً في صورة تمرد وميكانيزمات نفسية دفاعية ضد الانظمة والسلطات،
والأَولى هنا هو الجانب الوقائي الذي ينبغي أن يقوم على تضييق الفرص وتصعيب الهدف الإجرامي، وذلك بتغيير أساليب الحياة والأنشطة الحياتية والمجتمعية المألوفة، والعمل على إشغال الأفراد بما ينفعهم ويحقق رفاهيتهم، فلا يلجأون ولا يجدون وقتاً لأيّ سُبل توقع في الجريمة، وهنا نستثمر الفرصة في القول بضرورة نشر ثقافة المواطنة وانتشار الأمن والأمان ورصد الجرائم قبل وقوعها، والاهتمام بالصحة النفسية على رأس الأولويات، وتغيير السلوكيات وتثقيف الشباب، ودحض السلوكيات المضادة للمجتمع من عدوان وتقليد أعمى للثقافات غير الإسلامية التي تبثّ التهور والاندفاعية، وتحجيم الفضائيات التي تبثّ السلبيات في نفوس الشباب.
وأخيراً وليس آخراً، فإن الأمر كله يبدأ من الأسرة مروراً بالمدرسة والمجتمع والمسجد ووسائل الإعلام، ولكلٍ دوره في الحد من الجريمة، بل والقضاء عليها بدءً من الجوانب الفكرية والمعرفية مروراً بالجوانب السلوكية والانفعالية والوجدانية، حتى يعيش العالم في سِلم وسلام وإسلام.