قصة قصيرة (الجريمة) الجزء الثالث
خلفان بن علي بن خميس الرواحي
مر اليوم ثقيلا لكثرة الأحداث التي به، بداية من الأمطار الغزيرة التي حدثت وما صاحبها من جريان للأودية والشعاب وانقطاع التيار الكهربائي، ثم حادثة السيارة التي أشغلت جميع أهل القرية من كان حاضرا بالمكان أو من كان ينتظر الأخبار في البيوت.
بعد أن قررت الشرطة ضرورة حضور فريق مسرح الجريمة، تفرق الناس من تلك الساحة، وظل عددا بسيطاً بهدف متابعة الوضع وتبليغ الراحلين بالأحداث أولا بأول، وخاصة لحظة وصول الفريق. لقد كان “غسان” في الأمام ومجموعة خلفه يقترب منه، “أحمد” كعادته ويطرح عليه سؤالا: “غسان” في رأيك الرجل الذي بالسيارة مات غرقا أم قتلا؟ ينظر “غسان” إليه: الواضح أن الملازم لما ذهب إلى السيارة رأى أمرا ربما أدخل في نفسه شكا بأن الموضوع به جريمة قتل. بادره “أحمد”: وهذا ما كنت أعتقده، ولكن الرجل من أين؟ وما سبب القتل؟ أنا أقول إن الموضوع كبير. ينتظر الرد من “غسان”، ولكنه لم يجبه، فوكزه على ظهر لينتبه له ويرد على تساؤله بغضب يرد عليه: “أحمد” أنا مثلك لا أعرف شيئا عن الموضوع ننتظر، والشرطة هي من يرد على هذه التساؤلات. ومن خلفهما يتداخل يقول أحد أفراد المجموعة: أنت يا “أحمد” تدخل نفسك في أمور لا تعنيك، دع الأمور لأهلها، جهات الاختصاص موجودة والحمد لله لديها الكفاءة والقدرة على حل مثل هذه الأمور. ينظر “أحمد” خلفه وبضحكة فيها شيء من الاستهزاء بالمتحدث: ما شاء الله حكيم زمانك.
وصل “غسان” إلى بيته وكانت زوجته في انتظاره في لهفة وشوق كعادتها من أول يوم لهما لم يتغير شيء مطلقا، طرق جرس الباب وهرعت هي مسرعة فرحة تفتح له، عندما التقيا كانت ترغب أن ترمي كل جسدها عليه وتحتضنه، ولكنها تراجعت وآثرت تأجيل ذلك العناق إلى وقت آخر. سلمت عليه وصافحته ومسكت يده وهما يمشيان معا إلى الداخل ونظرات الحب متبادلة بينهما وكأن الفراق كان سنوات عديدة وليس مجرد ساعات، ولكن تلك الساعات بين العاشقين دهور.
في الداخل نظر إليها وفي صوت كلها حنان قال لها: كم اشتقت لك! ردت عليه بدون تفكير: وأنا شوقي لك يفوق شوقك لي. استمرا في النظر إلى بعضهما دون حديث، فقط كانت العيون هي من تتحدث، نظرات متبادلة تغني عن الحديث، اقتربت منه وأشبعت رغبتها في عناقه وبادلها ذلك. همس في أذنها هل طبختي لنا غداء؟ ابتسمت وردت عليه: كل شيء جاهز لحظات وسوف يكون الغداء بين يديك. قبل يديها ثم انصرف إلى غرفته وهو يقول: حتى تتم التجهيزات سوف استحم فأنا منهك القوى، سوف أقص لك حكاية اليوم على الغداء وهي متجهة إلى مطبخها: بإذن الله تعالى، كلي شوق أسمع القصة من المصدر فما قيل عنها كثير.
تناول “غسان” الغداء مع زوجته وقص عليها القصة بكل أحداثها والتفاصيل البسيطة التي جرت خلال عملية نقل السيارة من مكانها بالوادي إلى مكانها الآخر بالساحة الخارجية للقرية، فقالت له متسائلة: الآن الشرطة تنتظر فريق مسرح الجريمة كما تقول. رد عليها: نعم، وهم المختصين في مثل هذه الأمور.
ما لبث أن يمد جسده على الفراش حتى سمع هاتفه يرن نهض متثاقلا إليه وكانت رغبته في النوم قليلا، نظر إلى شاشة الهاتف فكان المتصل “أحمد”، من داخله أخرج نفسا عميقا وقال: ماذا يريد هذا الحين؟ التردد يسيطر عليه توقف الهاتف عن الرنين، ولكن ما لبث أن عاد مرة أخرى، ما زال “أحمد” يتصل قالها داخله سوف أرد عليه: أهلا “أحمد”، كيف الحال؟ يسكت لفترة ثم يرد عليه: طيب الآن أطلع من البيت قادم إليكم، شكرا لك. ينادى على زوجته، “عبير” تأتي مسرعة: خير ماذا هناك؟ يهدئ من روعها ويقول لها: كل الخير، لقد وصل فريق مسرح الجريمة إلى الموقع ولا بد أن أذهب. تنظر إليه: أنت من الفجر مستيقظ ولهذه الساعة لم ترتاح، نم قليلا وبعدها أذهب إليهم. يقترب منها ويطبق قبلة على جبهتها ويقول لها: لا بد أن أذهب فقد يحتاج الملازم “قيس” أي شيء مني، نلتقي على خير، إذا ذهبت معهم لمركز الشرطة فسوف اتصل بك. يخرج وتخرج خلفه تودعه وتدعو الله بخير: ربي يحفظك وتعود لنا سالما، انتبه في الطريق. يركب السيارة ويرفع يده مودعا لها.
يصل “غسان” إلى الساحة وقد سبقه العشرات من أهل القرية. كان “أحمد” أول الواصلين- بالأحرى “أحمد” لم يبرح مكانه- فقد جلس مع الشرطة حتى وصول الفريق وتكفل في نشر الخبر للجميع. أول ما شاهد الملازم “قيس” أن “غسان” قادم ناداه للحضور إليه: أهلا “غسان” أرجو أن تنبه المجتمعين هنا بعدم الاقتراب من الفريق حتى يؤدي عمله، نحن لا نريد أن نطبق القوانين، كل ما نريده التعاون منهم. “غسان”: بإذن الله تعالى. يذهب “غسان” ومعه الملازم “قيس” ويكلم الجميع بأهمية الالتزام وعدم الاقتراب من الفريق حتى ينهي عمله.
بدأ فريق مسرح الجريمة في عمله وبدأ في إخراج الشخص الموجود بالسيارة. الفريق يعمل بصمت الناس تشاهد حركة غير طبيعية، ولكن لا يستطيعون معرفة الأحداث التي تحدث هناك من سيارة الإسعاف التي أحضرت مع الفريق. تخرج النقالة ويتم تمديد الشخص عليها ويبدأ الفريق بالفحص سريعا عليه. الضابط المسؤول بالفريق يستدعى الملازم “قيس” ويتحدث إليه: من خلال التقييم الأولى للحالة هناك أشباه بوجود جريمة قتل. الملازم “قيس”: هذا ما كنت أظنه وخاصة من رأيت الحبل على قدميه. رد عليه: صحيح، الأمر الآخر هناك بعض الكدمات على الجسم، ولكن حتى الآن لا نستطيع الحكم هل هي نتيجة انجراف السيارة في الوادي أو هناك اعتداء عليه قبل أن يجرفه الوادي. الملازم “قيس”: أظن أن كل هذا سوف يظهر في عمليات التشريح والفحص في المعمل الجنائي. نظر إليه وهو يهز رأسه موافقا: هذا ما سيحدث بإذن الله تعالى.
مجموعة من رجال الفريق يأخذون النقالة إلى سيارة الإسعاف ويدخلونها بكل رفق، وبعدها يتحرك الفريق تاركا المكان للشرطة لإكمال إجراءاتهم المعتادة. ينادي الملازم “قيس” على أحد أفراده: علينا نقل السيارة إلى المركز، لأن فريق مسرح الجريمة يريدها هناك. يرد عليه: أمرك سيدي سيارة نقل المركبات موجودة معنا وسوف نحملها الآن. الملازم “قيس”: جميل وبعد رفع السيارة سوف نتحرك نحن كذلك ونلتقى بالمركز. بعد أن رفعت السيارة وبدأت في الحركة أمر الملازم “قيس” بقية الأفراد بالتحرك كما طلب من “غسان” مرافقتهم إلى المركز أو اللحاق بهم بسيارته الخاصة. نظر “غسان” إليه وأشار برأسه بالموافقة وقال له: سوف أحضر بسيارتي حتى أعود بعد أن أنهي معكم ما تريدونه مني، لن أتأخر عليكم. وهو كذلك كان رد الملازم “قيس” عليه.
بدأ الناس في الحركة من المكان والعودة إلى منازلهم بعد يوم مليء بالأحداث، الكل قد عرف بأن هناك جثة في السيارة وقد كان الشخص متوفيا وهناك اشتباه لوجود جريمة قتل، من هنا بدأ الكل ينسج القصص والروايات عن ذلك الشخص من قتله؟ ولماذا قتل؟ ومن أين جاءت السيارة؟ تلك الأسئلة نفسها كانت تدور في أذهان رجال الشرطة. أثناء ما كانت الجموع تتحرك في بطء لأن الأحاديث الجانبية قد زادت كعادة الناس تدخل نفسها في أمور ليس لها فيها دخل من بعيد يأتي “مسعود” ويتحدث لأحد المجموعات: أنتم لا تعرفون المقتول؟ أحد هم يرد عليه: ما زال الأمر لدى الشرطة ولم يثبت أنه قتل فلا تستعجل؟. “مسعود”: أنت ليس فيك عقل، لو لم يكن مقتولا ما جاء فريق مسرح الجريمة، أنا متأكد أنه مقتول. يضحك الذي كان يخاطبه: لا يكون أنت القاتل!!! ينصدم “مسعود” من رده وينزعج: أرجوك لا تقول هكذا، أنا فقط أتوقع. في عجلة رد عليه: تتوقع، وأصلا أنت من أين أتيت نحن لا نعرفك، هكذا دخلت علينا؟ يتردد “مسعود” في الإجابة، فالواقع لا أحد يعرفه: أنا مار وشفت التجمع فقط. تقدم منه رجل آخر: طيب إذا ما دمت ماراً واصل طريقك ولا تدخل نفسك في أمور أنت في غنى عنها. هذه الكلمات وقعت على “مسعود” كالماء البارد فقد ألجمته ولم يستطع التعليق وواصل طريقه وهو ينظر إليهم بشيء من الغضب وعدم الاكتراث بما قالوا. ينظرون إليه ومن بينهم من يقول خلف هذا الرجل قصة كبيرة لا يعلمها إلا الله.
كان “غسان قريبا من تلك الأحداث، ولكنه لم يشارك بها، مع أنه لم يعجبه ما قام به الرجل الذي لم يعرفه أحد، لحق به “غسان” واقترب منه وتعرف عليه فقال له: من أنت؟ “مسعود”: سبحان الله يا أخي أنا قلت لكم اسمي “مسعود”!!.
“غسان”: طيب من أين أنت؟
“مسعود” لا يرد على “غسان”، ويواصل طريقه ولا يهتم بمناداته له وكأنه لا يسمعه. دخل الشك إلى “غسان” كما دخل إلى البقية، ولكنه لم يقل شيئا وذهب إلى سيارته، وقبل أن يتحرك اتصل على زوجته ليعلمها بأنه ذاهب إلى مركز الشرطة وقد يتأخر حتى لا تقلق عليه. تحرك والكل يودعه على أمل يعود بأخبار جديدة من المركز.