جريمة وعسس- الجزء الأخير
خميس بن محسن البادي
الجزء السابق ساق في حيثياته تغيير وجهة نظر الزوجين “همام وهيام” نحو “شهم” وأسرته بعد موقفه المشرف في المحكمة من القضية، وشجار وقع بين “فهم” من جهة و”نجم وتيّم” من جهة أخرى بداخل السجن نتيجة ما وصل إليه “فهم” من عتب للذات بسبب رفقته لهم، تأذى من الشجار “فهم” وتم تنويمه في المشفى، وتم نظر قضيتهم بجلستها الثانية وتأجيلها، وزيارة “شهم” وزوجه وابنهما ل”فهم” في المشفى الذي كان قد زالت غطرسته وجبروته وصار مذعناً ليستشف هو من تلك الزيارة عدم وجود مكانة له بين أسرته رغم دعوة والديه له بالتوبة إلى الله تعالى.
فيبدو أن الرجل الشاب أدرك أخيراً ومتأخراً أن بعض أصدقاء هذا الزمان ما هم إلا رفقاء سوء وقلة من هم تنطبق عليهم صيغة صديق، ويأسف لحاله وما وصل به زيغه وضلاله وما استشفه شعورياً بعدم وجود مكانة له بين أبويه وأخيه في حياتهم بعد زيارتهم العسِرة له في المشفى وعدم تقبلهم له بينهم كما ظن هو ذلك؛ ولذلك جعل أمانيه وأحلامه وشوقه حبيسة النفس كما هو حبيس الجدران دون أن يظهره لهم، ولكن في المقابل ليس “شهم” وزوجه وابنهما “سهم” بهذا الصلف والجبروت نحو “فهم” بقدر ما هي رغبة جادة منهم إلى أن يعود لرشده وأن يتوب إلى الله تعالى توبةً نصوحاً بدليل دعوة والديه له بذلك، فهل من أوبة قريبة له مقرونة بتوبة لا سيما وأن لديه المزيد من الوقت والمدة لكي يكون قريباً من الله تعالى وهو بين جدران السجن يقضي عدداً من السنوات وهو حبيس فيه وثمة قضية أخرى بانتظار الحكم عليه فيها، حيث من غير المعلوم بعد كم هي المدة التي سيحكم بها عليه؛ ولذلك فإن وقت الفراغ كفيلاً بأن يتفرغ فيه المرء للتقرب من ربه بالعبادات والذكر والأدعية وتلاوة القرآن وحفظه وتدبر آياته وفهمه.
ويتقرر طبياً السماح ل”فهم” بمغادرة المشفى بعد عدة أيام قضاها للعلاج، ليعود إلى محبسه من جديد برفقة زميليه ولكن هذه المرة يتم عزله عنهم تجنباً لتجدد الاشتباك بينهم، فيما تم إعلام المختصين بالجهات القضائية بشأن تحسن حالته الصحية وخروجه من المشفى ليتم استكمال قضيته ضد زميليْه بجرم الإيذاء البدني، وفي الوقت ذاته لتحديد جلسة تقاضي أخرى في قضيتهم مع “همام وهيام”، وانقضى أسبوع من الزمن ويمثل “نجم وتيم” كمتهميْن في قضية اعتدائهما على “فهم” الذي طالب بحقه المدني منهما مستنداً في ذلك على الإفادة الطبية بالإصابات التي لحقت به نتيجة اعتدائهما عليه وما صحب ذلك من دلائل، ورغم أن “نجم وتيم” ساقا دفوعاتهما عن الأسباب التي أدت إلى ما وقع بينهم لكن ذلك لم يجد قناعةً أمام هيئة المحكمة فتم الحكم لصالح المتضرر بالتعويض المادي استناداً لما أوضحته الإفادة الطبية بشأن إصابته وكونه تمسك بمطالبته بحقه المدني منهما مع الحكم بحبسهما بضعة أشهر جزاءً لما اقترفاه من فعل، إذاً تم الفصل في جرم الاعتداء على “فهم” بالحكم لصالحه ولكن هذا لا ريب أنه سيزيد من اتساع الفجوة بين هؤلاء الأصدقاء/ الأعداء، أصدقاء الأمس في السوء والأذى، وأعداء اليوم لخلاف في الرفقة السيئة التي قامت على أسس غير سوية وتوجهات غير قيّمة وهو ما يؤكد مقولة المبني على باطل فهو باطل.
ويحين موعد جلسة المحاكمة التالية في قضية “همام وهيام”، ويستعد المختصين بتأمين إحضار المتهمين وإبلاغ همام وزوجه للحضور ليوم الجلسة ومن يعنيه الأمر بذلك، ففي اليوم المحدد يُؤتَى بالمتهمين الذين يقفون جنباً إلى جنب داخل قفص الاتهام، ويأخذ كلاً موقعه ومجلسه في ساحة القضاء ويتم النقاش والتداول والحوار، ويزيد ذلك من اتضاح الرؤيا وتأكيد القناعة وصدق نسب الجرم بما يتوافق وما حوته الأوراق في القضية من أدلة وبراهين، ولو أن المتهمين هنا يؤلون كذباً بعدم صحة ما هم متهمين به، مدعين أن ما نسب إليهم ما هي إلا أقاويل وادعاءات ليس لها سند من الصحة والمصداقية، متجاهلين تلك الأسانيد التي كلّفت للتوصل إليها والحصول عليها وصحة إثباتها الكثير من الجهود ومزيد من الوقت؛ وبذلك فإن ما حوته الأوراق وما تم سماعه واستشهد به أسباب مجتمعة كانت كفيلة بأن تُركن دفوعات المتهمين الكاذبة جانباً وتصدر المحكمة حكمها العادل في القضية الذي طال انتظاره نصرةً للزوجيْن اللذيْن ذاقا المر المرير والفعل الشنيع خلال أجمل ساعات وأيام حياتهما الزوجية نتيجة هذه الجريمة التي حلت بهما وعليهما عنوة وفي لحظة لم يكن في ظنهما أنهما سيكونان لقمة سائغة لهؤلاء المجرمين، فاليوم ها هم يتلقون جائزتهم المستحقة لهم جزاءً عن جنس فعلهم النكر رغم بشاعة الفعل من الفاعل على المفعول به، لكنه النص القانوني للجريمة الذي لا يمكن تجاوز مداه ما لم يحل محله نص جديد؛،فبناءً لهذا النص يصدر القاضي الحكم بموجبه معطياً بذلك الجناة أعلى عقوبة مشرعة تجرم الفعل. إنها العقوبة القصوى لهذه الجريمة طبقاً لنص القانون، نعم فلقد حظي الثلاثة بخمسة عشر عاماً عقوبة حبسية سالبة للحرية عن جريمة التعدي على “هيام” وسنة ونصف السنة عن جريمة الإيذاء الذي ألحقوه ب”همام”، وتعويض مادي كحق مدني للزوجين المجني عليهما، يدفعه المتهمين بالتضامن مع الغرامة المقررة للحق العام، مع الأمر بدمغ العقوبة الأخف في الأشد على أن تنفذ العقوبة الأشد، ولكن يتمسك هؤلاء المحكوم عليهم ببصيص أمل الذي يأملون من خلاله نيل حكماً مخففاً، ولذلك تم الطعن في الحكم أملاً في الحصول على خفض العقوبة والغرامات المحكوم بها على المتهمين، وباستكمال كامل إجراءات الطعن وتدارس القضية وتحديد موعداً لنظرها بحضور الخصوم المتقاضين، وربما نتيجة تمسك الزوجين بعدم تنازلهما عن حقهما المدني من الجناة، ومن الجلسة الأولى تم الحكم بتأييد الحكم السابق مع الأمر بوقف غرامة الحق العام فقط، ليعود المتهمين إلى محبسهم يقضون عقوبة بعد أخرى تلو الأخرى لمجمل ما صدر بحقهم من أحكام في قضايا ارتكبوها حين كانوا يتوهمون بأنهم بعيدون كل البعد عن طائلة المساءلة والقانون، فها هم ومنذ اليوم سيقضون إجمالاً أربعة وثلاثين سنة في السجن مخصوماً منها أيام حبسهم الاحتياطي والسنة والنصف التي دمغت في شقيقتها الأقوى؛ فهذا هو وهمهم الذي لا يؤدي بهم إلا إلى المهلكة والتهلكة، مهلكة حبس الحرية والنظرة الدونية لهم من المجتمع في الدنيا، والتهلكة بعقاب الآخرة ما لم يسبقوا أجلهم بتوبةً نصوحا ويأتوا يوم القيامة إلى الله بقلب سليم عساه جلت قدرته أن يقبل توبتهم ويرضى عنهم.
وأخيراً يقبع “فهم ونجم وتيم” محبوسين بين الجدران وخلف القضبان، محبوسين عدلاً وحقاً جزاءً لهم مقابل كم وحجم الأفعال الإجرامية المؤذية التي ارتكبوها، مؤذية للذي كابدها وعانى مرارتها بعد أن اقترفوها في حق كل من لحقه أذاهم وشرهم وكانوا سبباً لشقائه وتعاسته وزعزعة أمنه واطمئنانه وسلامته، والذين لم يكن لهم من ذنب عدا رغبتهم مشاركة المجتمع في بناء الوطن من خلال رفد الاقتصاد وتوفير متطلبات حياة الفرد فأوجدوا هؤلاء محالهم التجارية لهذا الغرض فدأبوا هم على السطو عليها واستيلائهم على مقتنياتها للصرف على ملذاتهم ومجونهم في حياتهم التي اختاروا لها العيش الحرام، وقيام آخرين بالترفيه عن أنفسهم آمنين مطمئنين على سلامتهم وهم بين أفراد وطنهم الذين لم يكن من “فهم” ورفيقيْه إلا التعدي على هذه الأنفس المطمئنة من اطمئنان المجتمع المسالم الآمن، وإقدامهم على محاولتهم تعطيل قدرات وكفاءات بعض الناشئة من أبناء بلدهم من خلال نشر آفة المخدرات بينهم بمقابل مال زائل لا يساوي صحة وحيوية ونشاط وعطاء أجيال هذا البلد المعول عليهم الإسهام في بنائه وخدمته، ولكن ها هي عدالة السماء يوفق الله بها همم الرجال وعزيمتهم وجهودهم المخلصة، فساقتهم إلى المكان الذي سيجعلهم بعيدين عن تحقيق المزيد من أهوائهم الآثمة، ولا ريب هم كذلك هؤلاء العسس، أنهم سيكونون ضد من يحاول السير على نهج أمثال “فهم” ورفيقيْه.. وماذا بعد؟؟.
“فهم” وزميليه علاقتهم ليست كما كانت قبل الشجار الذي حدث بينهم فما زالت الجفوة قائمة بينهم، و”فهم” ذاته يعاني ليس الأمرّين فقط؛ بل الثلاثة، مرارة الحبس وتوتر العلاقة بينه و”نجم وتيم” وإحساسه بعدم قبول أبويه وأخيه له، وهو الذي تعدّ حدود الله فظلم نفسه، وهذا هو آخر مأواه في الدنيا، ولأنه ابتعد عن طرق الهداية كثيراً فنسي ربه الغفور التواب الرحيم؛ فقد تسلل اليأس إلى وجدانه فمل حياته وفرط في الأمانة التي أودعها الله تعالى في بدنه فها هو يزهقها! نعم، فقد انتحر؛ حيث دخل دورة المياه مستغلاً الخصوصية بداخلها وتواريه عن أنظار الجميع، بعد أن أقدم على شق حواف منشفته فربط مباشرةً أحد طرفيه في صنبور مياه المغسلة بينما لف طرفه الآخر حول رقبته وببنيته النحيلة دلّى نفسه جالساً فاشتد الخيط على الرقبة؛ فكانت الموتة الشقية العصيبة في المكان القذر، وكان القائمين على أعمال الحراسة قد رصدوا تحركه وهو يلج لدورة المياه منذ البداية، وبعد أن لاحظوا تأخره في الخروج خلال وقت متفق عليه بينهم لنزلاء السجن أثناء تواجدهم في مكان قضاء الحاجة والاغتسال والذي لا يزيد في المعتاد على العشر دقائق ينقص قليلاً ولا يزيد، حيث همّ الرجال مسرعين لاكتشاف سبب تأخره في الداخل؛ فوجدوا الباب مغلقاً، ولحين تمكنوا من فتحه وجدوه على تلكم الحال وهو يلفظ الأنفاس الأخيرة؛ فسارعوا لفك الخيط عنه وكان قد بدأ جسده يبرد ولونه يزرق، ولكن ثمة نبض لا يزال به، وعلى عجل نقلته سيارة الإسعاف الخاصة بالسجن إلى المستشفى ولكنه في الطريق توفي بين يدي المسعفين، مات “فهم” ميتةً غير هنية وفي مكان غير لائق، وهو الذي خلقه الله تعالى في أحسن تقويم فأكرمه ونعمه وكرمه وبني جنسه على سائر مخلوقاته ومنحه من النعم ما لم تعد ولا تحصى، أزهق روحه التي هي من أمر ربه متناسياً رحمته وغفرانه، فمهما عظمت الذنوب فأبوابه جلت قدرته مفتوحة؛ ولكنه هو اليأس وغلظة القلب وعدم الأوبة إلى الله تعالى والتوبة النصوح له جلت قدرته، فما كان من القائمين على أمره إلا الاتصال بأبيه وإبلاغه بوفاته وطلبه بالحضور إليهم.
حضر “شهم” وبرفقته نجله “سهم” وتبيّنا أسباب وفاة “فهم”، ثم عُرض عليهما ما يرياه من إجراءات لضمان اطمئنانهما من الوفاة، ولكن “شهم” وبوصفه والد المتهم الهالك وبحضور ابنه “سهم” أكد استعداده باستلام الجثمان للدفن دون أية إجراءات تتبع ذلك مؤكداً لهم ثقته في كل ما تم اتخاذه، مضيفاً أن أجل “فهم” قد آل بالطريقة التي حدثت واختاره هو لنفسه وتأكيداً لمعرفته أن الموت آتٍ وأنه حين تحين ساعته فليس من كائن أن يمنعه، فقد أنشد بيتين منسوب أصلهما لابن نباتة يقول،، ويصطدم الجمعان والنقع ثائر،، فيسلم مقدام ويهلك حائد
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ،، تعددت الأسباب والداء واحد
فهكذا تم إنهاء كافة مراسم الاستلام والدفن بسرعة وهدوء وهكذا كانت النهاية، وماذا بعد هذه النهاية؟.
بعدها.. وبغريزة حب التكاثر وحرث النسل لإعمار الأرض كما ابتغاها الله سبحانه وتعالى من عباده بني البشر بالإرادة والقدرة الإلهيتين، ومنذ أن استعمر الإنسان الأرض ليكون خليفة الله عليها، هذا هو “سهم” يسعى الآن للبحث عمن ستكون زوجاً له لتكون قرينه في الحياة الدنيا، وتكللت مساعي “سهم” ووالديه في حصولهم على المرأة التي ستكون حرثاً له، وتتم طقوس الزفاف وكان “همام” وزوجه بين من كانت لهم بصمة واضحة وملموسة في الحفل من حيث التنظيم والاستقبال. إذاً هو الاعتراف بصنع الجميل أدام الله بينهم الود، وهكذا تستمر عجلة الحياة، ويؤدي كل فرد دوره في بيئته ومجتمعه، يخدم كلاً وطنه بطريقته والمهنة التي ارتضاها لنفسه وأوكلت إليه مهام تنفيذها والقيام بواجباتها.
إنها الدورة الحياتية للكائنات والمخلوقات، حياة البناء والتعمير والعطاء والتطوير في عالم بني آدم.