رَســائـِـل فُـــؤَاد_ج_١٥_في الحياة_حرّية التفريغ والتّطهير
فؤاد آلبوسعيدي
تضمن بعض الحوارات التلقائية أو العفوية التي نجريـها مع بعضنا الإستفادة من خبرات الآخرين ومعرفة بعض الأمور التي قد نكون نجهلها، أو تصحيح بعض المفاهيم والظّنون الخاطئة أو السّيئة التي نحملها تجاههم، أو ربّما تجاه بعض الأمور الحياتية التي قد نكون لم نعيشها أو لم نعيها بعد بطريقة صحيحة وصائبة..؛ قبل فترة قريبة كان لي الحظّ في الإستفادة من خلال حواري مع أحدهم، حيث تبادرنا في الحديث والمحاورة إلى أن وصلنا إلى المجال الذي يمارسه بشغفٍ؛ وهو الكتابة بمختلف مجالاته، فما كان سوى أن أجابني بكلّ عفويّة..
الكتابة هي موهبة وعطيّة من الخالق الواهب فيعطيها ويهبها للبعض من البشر؛ فيملكها البعض من الأفراد دون الآخرين من الناس، وهي ليست فوضى لغوية من الحروف ولا بعثرة من الكلمات الخالية من وضوح المعاني؛ هي فنّ التّفريغ العاطفي أو التّطهير النفسي، وهي القدرة على إخراج (تنفيس) الأفكار والخواطر التي قد تملأ أركان عقولنا بالمناصفة مع الكثير من وخزات تلك المشاعر والأحاسيس التي تسكن في أعماق قلوبنا. بعض الكلمات والسّطور والحروف هي أبداً ليست سوى سرداً من الرسائل والمساحات الكتابية الخاصة التي تحمل معنىً يعكس تلك (أو بعض) الحقيقة التي نحملها لفترة زمنية في جنبات أفئدتنا، حروفنا التي تملأ سطور دفاتر يومياتنا هي شغف مستمّر وحبّ متواصل متى ما زارتنا الأفكار وكلّما سافرت معنا الخواطر كثيراً…
تكلّم كثيراً ثمّ أردفَ مُختتِما كلماته.. أنّ ظِلال حروفنا قد أضحت وكأنها المتحكّمة والمسيطرة علينا؛ بل حتى أنّنا صرنا نقوم في صباحاتِنا الُمشرقة ونُطيل في سهراتنا المسائية أحياناً وكأنّنا نعيش منغمسين بقوة في دائرة تلك الأفكار، ولا نرتاح أبداً إلاّ بعد أن نعكس جلّ تلك الأفكار بين سطورنا، نكتب كلماتنا لأنّها هي نتاج الكثير من المواقف والمشاهدات التي تحملها عقولنا وقلوبنا التي لن نشعر معها بالإرتياح فيها سوى بعد ملء الحروف وبعثها بين السّـطور؛ وحينها فقط نشعر براحة البال وسرور القلب وهدوء السّكينة.
قد يكون الكثير أو ربّما الغالبية منكم مثلي مجبوراً على الوقوع في قيود أفكاره التّي قد تشتّته، وقد يكون مرغماً على السّقوط داخل استعمار وسجنِ ذاكرته التي قد تقوده وتجبره أن تعود بتفاصيل سرد خياله إلى بعضاً من المواقف الماضية والقديمة. فالكثير منّا قد يكون أحياناً مُخضوعاً على محادثة نفسه ومحاورة أفكاره الدّاخلية؛ فيجد حاله بين تلك اللّحظات وكأنّه في لحظات نقاشٍ مستمرّةٍ أو جلسات مصارحة طويلةٍ.
من المواقف التي أستذكرها بين الحين والحين، هو ذلك الموقف الذي سمعته من أحد الأصدقاء قبل سنين قليلة مضت؛ حيث كنا نتحادث في نقاشات عامة بلا حدود ولا رسميّاتٍ تفصل عقولنا وبلا أيّ تكلّف بيننا.. أتذكّر عندما أشار إلى مساراتي التّعبيريّة وإلى أساليب كتاباتي بإنّها أحياناً تحتوي على لمسات غرورية تدلّ وكأنّ كاتب الحروف هو شخص يتباهى دوماً بكمالية وشمولية صفاته وخصاله.. أتذكّر تعقيبي على ملاحظاته كان فقط بالقول؛ (الكمال لله وحده).
أحياناً قد نبحث عن الكمال التّام في بعض الأفعال والأقوال ولكن ذلك حدّاً أو هدفاً إن أردنا الوصول إليه يكاد أن يكون مستحيلاً لمن تربّى وكبر على الإيمان الخالص بأنّ الكمال في الصفات هو لله الخالق وحده.. نحن نبحث ونتحدّث عن الكمال وكأنّنا نعيش حياة مثالية ولا ينقصنا في أخلاقنا وصفاتنا شيئاً؛ ولكن الحقيقة هي أنّنا ينقصنا الكثير الذي قد يكون مجهولاً ومبهماً عن مداركنا ونحن لا نكتب عنه سوى لأنّنا نريد من الآخرين تحقيق المثالية التي لم نحقّقها والموجودة في كلماتنا وسطورنا.
يا صديقي كتبت وسأكتب الكثير والكثير ولكنّني أحياناً وفي كلّ أحوالي عندما أراجع بين سطوري لا أقرأ ولا أرى ولا أجد بين فواصل كلماتي مشاهد التّكبر ولا حتّى نظرات الغرور التي تحدّثونني عنها؛ ربّما ستكتشف وسيفهم كذلك أحدهم بأنّ بعضاً من السّطور بها الكثير من المثالية التي أتمنّى الوصول إليها بل وأتوق إليها، لتعلم بأنّي على يقين وعلمٍ بأني لا أتّصف بمثالية ما تقرأ من وصفٍ في حروف كلماتي؛ فهي فقط استرشاد لمنهج ربّما أنا بنفسي لست قادراً على السّير فيه أحياناً.
بين السطور والحروف الكثير من العواطف والمشاعر التي ربّما ستساعد على جبر الخواطر؛ أحياناً بعضنا قد نجد نفسه فجأةً ودون أيّة مقدّمات بأنّنا نكتب سطورنا ونعبّر بكلماتنا لأنّنا لسنا بحاجة إلى التحدث مع أحدهم لكي يُجبِر خواطرنا ويعطف على ما وصلت إليه الأحوال، وأحياناً نحن قد لا نكون بحاجة أبداً إلى أن نذرف دموعنا هنا وهناك لكي نشتكي ونهيم عند أحدهم على وضعٍ قد بات يضايقنا أو نوجز للغير حول شأن قد صار يقلق راحة بالنا ويضيق من سكينتنا. إنّ لحظات جبر الخواطر في سطورنا التي نكتبها هي أقرب إلى أن تكون كذلك الخيال العميق الذي نتوسّم فيه ونريده فعلاً في واقعنا، وهو الذي نشعر من خلاله وكأننا نحضن بعاطفة قوية وجيّاشة ذلك الذي سيقرأ من حروفنا وكذلك ذاك الذي سيستمع وينصت إلينا.
مُخطئٌ ذلك الذي يعتقد بأنّ وجود فجوة كبيرة بيننا وبين الهبات الجميلة والشّيقة التي قد نمرّ بها، وكذلك عبورنا بين مطبّات الحياة الصّعبة التي نعيشها هو السّبب الأكبر الذي يجعل بعض منّا يستفرد مع نفسه ومع أحاسيسه؛ ليقوم بعدها بالتعبير عن ما يخالج داخله الفريد. حقيقةً نحن أبداً لم نكن يوماً نعاني من كثرة الفراغ في أوقاتنا (كما أشار أحدهم أثناء إحدى المناقشات الجانبية)؛ نحن عندما أخذنا الأقلام أو فتحتنا واستخدمنا أجهزتنا الحاسوبية الحديثة لنكتب وننقل بعضاً من خبراتنا ويومياتنا أو سطوراً نعبّر ونكتب فيها عن مشاعرنا لم نكن نعيش المعاناة مع الفراغ؛ فعندما يجدنا بعضهم نكتب أو نفعل شيئاً يخصّنا.. عليه أنْ يعلم بإنّ مثل تلك اللّحظات هي قد تكون من أثمنِ أوقاتنا الخاصة التي نحبّ فيها أن نصنع خيالاً نعانق فيه بقوّةٍ صدر أحدهم؛ لكي نشعر بالرّاحة والسّلام، وفيها نتخيّل وكأنّنا نكون في وضعٍ ولحظةٍ فيها نشبك أصابع أيدينا بكلّ شدّة مع أصابع أحد له القدرة على فهمنا؛ هو شخص في الخيال يملك تلك المودّة التي بها يمنحنا الأمان ويمكن أنْ نحادثه بكلّ أريحيّة فيحمي سرّية الحديث، ونرفع إليه ما يحدث لنا من أمورٍ قد لا يستطيع أحداً في الواقع أنْ يفهمها أو يفهمنا كما نشاء ونتمنّى؛ تلك التّخيلات النّصية والتّعبيرية قد تكون لحظاتنا الوحيدة التي نستطيع من خلالها أن نحصل على ما نريد من جبر لخواطرنا الرّوحية ولعواطفنا الدّاخلية التي ربّما تكون قد تعرّضت لنسمات من الأذى المُجرِح أو هبّاتٍ من الألم الشّديد بسبب أحداثٍ عرضيّة.
قد نكتب سطورنا لأنّها أحياناً أصدق وأكثر قوّة من تلك الكلمات التي قد تحمل صدى أصواتنا. لنتذكّر بأنّ هنالك من الناس من لا يهوى أبداً الذهاب إلى المقاهي ليشرب كوباً من قهوة “الكوفي لاتيه” الباردة أو “الكابتشينو” السّاخنة لكي ينسى بعضاً من همومه أو كما يُقال في العاميّة (من أجل تعديل المزاج). هنالك الكثير أيضاً من لا يجيد النّظر إلى أُفُقِ السّماء كركن يساعده على بعثرة تلك الأفكار والمزاجيات التي تتلاعب بأحواله النّفسية. يجب أن لا ننسى بأنّ هنالك من لا يحبّ التحدّث إلى النّسمات البحرية أو إلى التّهامس مع أمواج الشّطئان لكي ينسى هذا العالم وما فيه من منغّصات وما به من أحداث كثيرة تضايق قلبه وتحتكر عالمه الخاص وفكره ومشاعره. كلّ شخص له سرّه الذي يحافظ عليه كلّما أراد أن يجد جبر الخاطر.
بعضنا ربّما يملؤه الكثير من الظّنون الخاطئة ويحيط حول رأسه الكبير بعض الإعتقادات والأفكار السلبية التي حتماً قد تحتاج إلى تصويب من أجل تحسين الصورة التي يصنعها وينظر إليها نحو وتجاه من يمسك القلم ليكتب في سطور دفتره أو ذلك من يقوم بطبع ما تمليه عليه خيالاته وشجونه أحاسيسه في هاتفه النّـقال أو جهاز حاسوبه الآلي؛ فيقوم بالتّعبير متى ما فاضت قريحته عن بعضاً من ملاحظاته الفكرية أو خواطره اليومية التي عاشها وعاصر لحظات أحداثها. للأسف أحياناً وفي سبيل انتزاع رداءِ سوء الفهم من أولئك الذين ينظرون بعينٍ سلبية تجاه لحظاتنا الحوارية مع سطورنا وحروفنا فإنّي كثيراً ما استنكرت فرضية وجود وقت الفراغ الطويل (بالعامية: الفضاوة) أو عدم حسن استغلال الوقت بأنّ ذلك قد يكون هو السبب الأكبر دائماً لإتجاهنا إلى حالاتنا الحوارية ونوباتنا الكتابية. كم كرّرت لمن ساءه الفهم وقُصر حبال الإدراك لديه بأنّ الفراغ ليس هو السبب العظيم الذي يجعل الكثير منّا يقوم بالكتابة بنهم وبكثرة خواطره ويومياته وبعثراته وقصائده ومقالاته و….و….إلخ.
ختاماً رسالتي للباحثين عن الكمال الأدبيّ والرّاغبين له.. نحن لا نبحث عن الكمال رغم أنّها المراد المستحيل، ولا نسعى إلى المثالية العليا رغم أنها الوِسام الذي يتوق إليه الكثير.. نحن عندما نكتُب بتواضعٍ حروفنا فإنّنا حينها نكون حاملين في أعماقنا ونحمل في أعماق أذهاننا هدفَ وحبّ أن تكون حواراتنا الأدبية الموجودة في صفحاتِ أوراقنا عظيمة في فكرتها، وأن تكون تلك السّطور في دفاترنا دقيقة جدّاً في معانيها وتعابيرها؛ بل ونريدها كذلك أن تكون صادقة في مكنوناتها وتتّصف بالأصالة لحظة تصل إلى شفاه القارئ والباحث عن زادِ المعرفة. أحياناً نحن نعتبر بأنّ كلماتنا اللّواتي تُزهِر في سطور كتاباتنا المتواضعة هنّ نصائح رائعة حسب المنظور الذي نساوره ونريده، وقد لا يعجب بعضهم ما نصفه، ولكن هو ما نراه أحياناً أبلغ الواقع الذي نتمنّاه؛ فنحن نبحث كثيراً عن المثالية ولكن عقولنا تتعب كثيراً أثناء سعينا من أجل ذلك، وللعلم أنني أكاد أن أكون باحثاً عن المثالية الآن حتى وأنا أكتب هذه السّطور والحروف التي قد حذفت منها الكثير والكثير أكثر من ما يظهر أمامكم فقط؛ لكي أوصل إلى قارئ السطور لأفضل صورة وأجمل شكل مثالي يعكس أفكاري.