2024
Adsense
مقالات صحفية

لا عزاء لكورونا

خميس البلوشي

توقّف العالم فجأة تلك اللحظة التي أُغلقت فيها المطارات، وأُطفئت أنوار المدن الكبيرة، كان الصمت سيّد المكان، لا أزيز الطائرات، ولا ضجيج الحافلات، فقط نسيم يهمس برفق من خلف النوافذ المغلقة، هكذا هزمت كورونا عجلة الزمن المتسارعة، وأوقفتنا أمام مرايا أنفسنا التي طالما تهربنا من مواجهتها في زوايا بيوت خالية من الحركة، تدور الأفكار كدوامة لا تعرف الهدوء، ربما لم يكن العزاء يوماً لكورونا، بل كان لنا نحن، للبشر الذين فقدوا معاني كانت تتلألأ تحت سطوة التسرع والانشغال، جاءت كورونا كضيف ثقيل لم نرغب بزيارته، لكنه كشف لنا كم كنا غرباء في عالم مزدحم، عزاؤنا لم يكن في رحيلها، بل في إدراكنا ما كنا نفقده طوال تلك السنين،
لا عزاء لكورونا، لأنها كانت انعكاساً لضعفنا، لخوفنا، ولتفكيرنا المحصور في ذاتنا. عزاؤنا الوحيد كان في تلك اللحظات التي استعدنا فيها هدوء الكون، حينما توقف ضجيج العالم وسمعنا أخيراً نبض قلوبنا المتسارعة.

لا عزاء لكورونا، لأنها كشفت هشاشة نظامنا، ذلك النظام الذي ظنناه منيعًا ومستعدًا لكل طارئ، سقطت أقنعة الحضارة الزائفة، وبدت القوة التي بنيناها على مر العصور وكأنها قلاع من رمال، تذروها الرياح مع أول موجة من الخوف والعجز، فقد تهشّمت صورة الإنسان العصري الذي اعتقد أنه يسيطر على كل شيء، ولم يتبقّ إلا حقيقة واحدة: ضعفنا أمام الطبيعة، تلك الطبيعة التي تجاهلنا تحذيراتها، وتجاهلنا ندوبها التي تئن تحت وطأة تطاولنا وغطرستنا.
لا عزاء لكورونا، لأنها لم تأتِ لتدمّر الأجساد فحسب، بل دخلت إلى أعماقنا، لتحاصرنا بالعزلة وتضعنا أمام أسئلة لم نكن نجرؤ على طرحها، ما الذي يعنيه أن تكون إنسانًا في عصر التقنية والتواصل السريع؟ هل نفهم بعضنا حقًا، أم أن الوجوه التي كنا نلتقيها في زحمة الأيام ما هي إلا أقنعة تخفي ما بداخلها؟ أليس من الغريب أننا، رغم كل وسائل الاتصال المتاحة، شعرنا بوحدة قاسية عندما أُجبرنا على الانفراد بأنفسنا؟

في ظل تلك العزلة، تعلمنا قيمة الأشياء الصغيرة، تلك اللحظات التي كنا نمر بها دون أن نلقي لها بالًا، أصبحت فجأة أشياء ذات معنى عميق: ضحكة طفل، حديث دافئ مع صديق، شجرة تلوح بأغصانها في الريح. الحياة أصبحت أبسط، وأكثر وضوحًا.

لا عزاء لكورونا، لأنها أجبرتنا على أن نكون أصدق مع أنفسنا. لعلها كانت درسًا قاسيًا، لكنها ذكّرتنا بأن الحياة ليست سباقًا نحو النجاح الفردي، بل هي تشابك من العلاقات الإنسانية، من التضامن والتعاطف، رأينا كيف أن الألم مشترك، وأن المصير واحد، تعطلت الحدود الجغرافية، وتلاشت الفوارق الثقافية والاقتصادية أمام تحدٍ واحد.

لا عزاء لكورونا لأنها، رغم قسوتها، أعادتنا إلى أصل إنسانيتنا.
لا عزاء لكورونا، لأنها، وإن كانت قد هزّت أعماقنا، منحتنا في الوقت ذاته فرصة لإعادة ترتيب قيمنا في وسط هذا العالم المتقلب، لا يبقى إلا حكمة واحدة تتلألأ في الأفق: “الأزمات تصنع الحكمة، والمحن تفتح العيون على الحقائق التي كنا نغفل عنها”.

لعل الدرس الأكبر الذي تركته لنا كورونا هو أن القوة الحقيقية لا تكمن في السيطرة، بل في القدرة على التكيف، والمرونة في مواجهة ما لا يمكن التنبؤ به. الحياة ليست عناداً في مواجهة العواصف، بل هي تعلم الرقص تحت المطر… فيا هل ترى ماذا ستبقي لنا تقنية الذكاء الاصطناعي .. من آثار؟

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights