جريمة وعسس- الجزء الثالث عشر
خميس بن محسن البادي
الجزء السابق تضمّن أول جلسة من جلسات التقاضي في قضية همام وهيام، وكان من بين الحضور والد فهم، الذي طلب من هيئة المحكمة السماح له بالحديث بوصفه أباً لأحد المتهمين، حيث أذن له رئيس الجلسة بالحديث، فأخذ موقعه في منصة الشهود في قاعة التقاضي، فبدأ حديثه المرتجل قائلاً:
فضيلة الشيخ القاضي رئيس الجلسة، السادة الحضور، بادئ ذي بدء أتوجه إلى فضيلتكم بالشكر الجزيل والامتنان العظيم والعرفان الجميل بموافقتكم الكريمة على هذا الشرف بالوقوف في هذه الساحة القضائية العادلة، وأمام هذا الجمع الطيب المبارك، راجياً من فضيلتكم وأنتم ترأسون هذه الجلسة إتاحة الفرصة لي كاملةً من لدن فضيلتكم لتستمعون مشكورين ما جئت لأجله وأود قوله على مسمعكم والسادة الحضور، ومعلوماً أن لكم الحكم الفصل وفقاً لما ستصل إليه قناعة واطمئنان وجدان محكمتكم الموقرة، فحديثي ما هو إلا بيان لموقفي من القضية المتهم بها ابني والماثل أمام عدالتكم في قفص الاتهام رفقة شريكيه، و إني إذ أستميحكم عذراً عن سوء التعبير الذي قد لا أجيده أو لا أوفّق في انتقاء النطق به كما يجب أن يكون في هذا المكان العادل، وذلك لعدم البسطة في العلم كمختص بالقانون والتعاطي مع قضايا المجتمع، والذي قد يأتي على نقيض ما تتمنوه واعتدتم على سماعه من أناسٍ مختصين خبروا الحديث في ساحات القضاء، ومثَلوا أمامكم يدلون بما في كنانتهم، بما يُعرف لدى فضيلتكم بالترافع و الدفاع، كل ذلك وهمام باطنه يتوجس خيفة من ضرر وسهم هو الآخر في ركنه وعلى مقعده يترقب بحذر، فعرّف شهم بنفسه لمن حضر وأردف قائلاً: إن حديثي الذي سيرد هنا هو ليس نكايةً أو انتقاماً أو ضغينةً لأيّ كان، بقدر ما هو غيرة بحتة مما يحدث من البعض من تعدٍ سافر على حقوق وسلامة وأعراض الآخرين، وليعلم فضيلتكم والإخوة الحضور أن هذه المرة ستكون الأخيرة كما هي الأولى لحضوري لهذا المكان المنصف في ما يخصّ ويتعلق بهذه القضية، وذلك لا لشيء إلا لعدم صلتي بالأمر عدا ما جئت لأجله اليوم بنيّة إيضاحه لعدالتكم وأطراف هذه القضية التي بين يديكم تنظرونها الآن، كما وأرجو من المختصين بهذه الساحة العادلة الموقرة أن يرصدوا ما سأقوله ليكون مرجعاً إذا دعت الحاجة لاحقاً لذلك، وسنداً للمحكمة تستند عليه ضدي لو تطلب الأمر ذلك أيضاً، ويبدو أن شهم وهو المرتجل في حديثه قد فرض هيبته ووجوده بين الحضور وأمام هيئة المحكمة، فاحتُرم هنا شهم لما يقوله لوقاره وتقديره هيئة المحكمة وفصاحة لسانه، فقد أعجب الشيخ القاضي رئيس الجلسة بهذا المتحدث حتى قبل أن يصل بعد إلى صلب ولبّ الموضوع الذي طلب الحديث لأجله، لكنه ربما استشفّ منه الصدق وتوسم فيه عدم التضليل والمراوغة، ورغم دراية أمين سر المحاكمة بواجبه إلا أن القاضي رغم ذلك أكّد عليه بإثبات كلمة شهم كتابياً، وهذا ليس بناءً لطلبه فقط بل وفقاً للمتّبع في جلسات التقاضي، بينما همام هنا على أعصابه يستمع بترقب وينتظر، فطلب إليه القاضي مواصلة حديثه، فأضاف يقول شاكراً فضيلة الرئيس، سيدي القاضي -وهو يشير إلى المتهمين- ليعلم فضيلتكم أن أحد هؤلاء هو ابني، نعم للأسف أنه كذلك، نعم هذا الفتنة المسمى فهم قد أنجبته والدته التي هي قرينتي من صلبي ليكون لي ولها زينة الحياة الدنيا، لكنه وللأسف حاد عن درب الحق والرشاد، وخلع ثوب الهداية والتقوى والصلاح، واتخذ من الغيّ والزيغ سبيلاً للغواية والضلال، فارتدى ثوب القبح والشناعة وسوء الخلق والوضاعة وأنكر علينا وعلى ذاته صفة الزينة التي يَقَرُّ بها البصر وتطمئن إليها البصيرة ويسكن بها الوجدان، وإني لشاهد بشهادة قد أُسأل عنها في يوم لا ينفع للمرء فيه مال ولا بنون، بأن والدته لم تألُ جهداً في سبيل العطف والرعاية والحنان على هذا المتعدي على حرمات الله تعالى والماثل أمامكم مثول الخزي والعار، ليس على أسرته فحسب، بل على المجتمع بأسره، فرغم مشاغلها والتزاماتها المتعددة إلا أنها كانت تعطي بيتها وابنها العاقّ هذا جُلّ وقتها واهتمامها، كما لا يمكنه أن ينكر دوري كأب ناحيته على الأقل منذ أن بدأت ذاكرته تختزن الأحداث من حوله، وقد سعيت وأمه بتربيته التربية القائمة على الفضيلة والأخلاق الحميدة، وحتى وهو في بداية التحاقه بالجامعة كان على ما عهدناه فيه من الخير والصلاح، ولكن يا للأسف، فقد تبع هوى النفس فانحرف ورافق قرناء السوء وانجرف وخسر تحصيله العلمي بالجامعة نتيجة سلوكه المنحرف، فعوضاً عن أن أرفع رأسي فخراً وزهواً به، أوليس زينتي ومن حقي عليه ذلك وأن أقطف ثمار جهد السنين بما أستحقه منه من فلاح العمل وخيره، لكنه عمل على النقيض منه تماماً، فجعل بوناً شاسعاً بين الفخر والزهو، وبين التغطرس والوضاعة، حيث آثر أن يمشي مكباً على وجهه هائماً في دربه، (فهل همام ما يزال غير مطمئن لشهم كما هو سهم وهما يستمعا لحديثه هذا؟)، أبيّن لكم فضيلة الشيخ القاضي أن فهم هذا الذي يقف اليوم في هذا القفص كما وقف من قبل في أقفاص مماثلة وفي محاكم مختلفة وعلى مختلف درجاتها نتيجة كمّ الجرائم التي ارتكبها وآذى بسبب ارتكابه لها آخرين، كان يشار إليه في ما مضى بالبنان حتى تلكم اللحظة التي غادر فيها بيئته التي ترعرع فيها إلى بيئة رجال الغد والمستقبل، إلى حيث يُزوّد الرجال متسلحين بالعلم والمعرفة في رحاب الجامعات التي تُخرّج أصحاب الكفاءات والهمم والعزائم والطاقات المتقدة بالفكر النير والعلم المتطور لخدمة أوطانهم ومجتمعاتهم، هذا الشاب كان يشار إليه بالبنان، بل ومضرب مثل أقرانه وأترابه في محيط نشأته من حيث أخلاقه الفاضلة وحُسن تربيته، لكن يا للأسف والحسرة والندم، فاللهاث وراء هوى النفس والرفقة السيئة وصخب الحياة ومجونها أضعفت إيمانه وهدّمت صراطه السويّ ّالقويم، وسيطر الشر على الخير في ذاته مترجماً ما بداخله من قبح الأفعال إلى واقع ارتكبه فقاده ذلك إلى ما صار إليه الآن، رغم وقوف أسرته إلى جانبه مع بداية جنفه أملاً وطمعاً في استقامته وعودته لجادة الصواب، فأرهقنا علوّاً وطغياناً وفساداً في الأرض فأبى إلا أن يكون منساقاً خلف ما يسوس له به شيطانه ويزينه له حتى اتخذه ولياً، حيث أفلت وضيّع من كل جوارحه وأحاسيسه ومشاعره العروة الوثقى التي لو استمسك بها لجعلته حصناً محصناً عن كل المحرمات، ولكانت له درعاً واقياً عن جميع ما فعله وارتكبه من أذىً بحق المخبتين على عرضهم ومالهم في بلد يسوده الأمن والاستقرار، لكنه وقد تعدى حدود حرمات الله تعالى فقد أتى هو ومن معه ومن هم على شاكلتهم مزعزعين هذا الاطمئنان الذي سيظل سائداً بعون الله تعالى وتوفيقه في ظل سيادة العدالة والقانون رغماً عن كل طاغٍ على هذه البسيطة الفانية، وكما علمت مؤخراً فقد نال ورفيقيْه أحكاماً قضائية عادلة ستسلبهم حريتهم ولو إلى حين، حيث سيقبعون بين جدران السجن لمدة زمنية قادمة، الأمر الذي سيجعل من ذلك راحة للمجتمع من شرهم جزاءً لجنس أفعالهم الإجرامية التي اقترفوها فيما سبق، وبانتظارهم ما نرجوه ونأمله أن يكون من أشد العقاب له في هذه القضية، نعم هذا ما أرجوه له بصفتي أبوه، وأقول هذا الكلام وأنا أعي وأدرك ما أقوله، لأن الشيء الذي يجهله ولا يعلمه إلى هذه اللحظة، هو لأني في ليلة قبل بضعة عقود كنت ووالدته مكان هذيْن الزوجين -وهو يشير إلى همام وزوجه- حين كنا في مثل سنهما وبداية زواجنا قد تعرضنا لجرم مماثل أقل بشاعة مما ارتكبه هو في حقهما، أقل منه لأننا قاومنا أولئك الأوغاد بكل ما أوتينا من القوّة، ولم يتمكنوا من نيل مبتغاهم الآثم بفضل الله تعالى، ورغم ذلك كنت شديد الحرص على أن ينالوا عقابهم المستحق فلم أساوم البتة على حقي الشخصي منهم، فنالوا جزاءهم العادل وفقاً للقانون وعدالة القضاء الشامخ ونزاهته، فيا سادة، لو كان حينها موجوداً هل سيرضى لوالدته ما حدث لها ولي ليقدِم هو شخصياً ومن معه على ارتكابهم فعلاً مماثلاً بحق هذه المرأة المسكينة وزوجها، وأقول أنه ارتكب هذا الفعل الآثم بثقة، لثقتي في كل شخص لامست يداه ملف جريمتهم البشعة بأنهم لن يقتادوهم إلى هذا المكان الموقر ظلماً وعدواناً وزوراً وبهتاناً، بل لا ريب أن الإتيان بهم إلى موقعهم هذا جاء نتيجة ما توافر ضدهم من الدلائل والإثباتات التي أجهلها أنا شخصياً، والتي عكف على جمعها وتفنيدها وتحليلها رجال لم تأخذهم سِنة من نوم ولم يهدأ لهم بال، ولم تهنأ لهم راحة حتى استخلصوا نتائجها لتقدم إلى هيئة المحكمة كما هي أمام فضيلتكم اليوم، لتكون من غير جدال أنها معلومة ومفهومة وواضحة بجلاء لدى عدالتكم الموقرة، لتؤكد لفضيلتكم وبشكل قاطع تورطهم في هذه الجريمة القبيحة النكراء الشنعاء، فمثل ابني هذا وحش في هيئة إنسان تتبرأ منه وأمثاله فئة البشر جمعاء المجبولة على الفطرة السليمة السوية الحقة، واليوم، ومن هذا الموقع، موقع النزاهة والعدالة وإحقاق الحق وإنصاف المظلوم بجزاء وعقاب المجرم، نعم موقع إحقاق الحق ونصرة المظلوم وكسر شوكة الظالم، أعلمكم سيدي القاضي والسادة الحضور، أني وأخاه ووالدته ضده، ضده، نعم ضده فيما فعله واقترفه من جرم شائن بشع قبيح منبوذ قد حرّمه الدين وجرّمه القانون ويمقته العرف المجتمعي ويرفضه العقل والمنطق، وأُعلنها صراحةً لهذين الزوجين بعدم تنازلهما عن حقهما ممن كان السبب في مأساتهما النكرة المؤلمة هذه، ومع كل التقدير لعدالتكم التي تجيز لكم العديد من التقديرات التي تراها هيئة المحكمة، إلا أنني أرى أن الرأفة والشفقة بحق هذا المبخلة المجبنة وزميليه لا سبيل ولا طريق لهما إليهم إذا ما قارنا ذلك بمأساة هذين الزوجين اللذين تجرّعا مرارة ألم فظيع نتيجة ما أحدثوه بهما، وكانوا سبباً مباشراً في ألمهما ومأساتهما حتى أني أستطيع الجزم أنهما ما زالا يعانيان آثارها، فلعل عقاب عدالتكم الرادع لهؤلاء المجرمين يكون شافٍ لصدريهما ولو بجزء يسير نظير شناعة ما تعرضا له من جرم، يعي فضيلتكم لا شك والسادة الحضور جسامته وعواقبه على النفس البشرية على مدى عقود من الزمن، فجريمة كهذه لا أظن أن ثمة جريمة أخرى تعادل قبحها وشناعتها على الذات، وهو ينظر ناحية همام، نعم يا بنيّ، إني أشعر بمأساتك وزوجك وأدرك أيّما إدراك بما أنتما عليه من الحزن والألم والمأساة المرّة، فمن هذا المنطلق أوصيك أمام فضيلة الشيخ القاضي وفي هذا المكان الموقر الذي اعتدنا فيه ومثله على تطبيق العدالة وإحقاق الحق وإنصاف المظلوم بثباتك على موقفك، فإياك وأنت في هذا المكان العادل أن تفرّط في حقك وشرفك، واعلم يقيناً أن القضاء سينصفك طالما حملتْ قضيتكما في طياتها ما يثبت وقوع الجرم بحقكما، فلا تدع مجالاً للتنازل عن حق الاعتداء عليكما، وليعلم الجميع أن الذي حال دون تمكني من القيام به ناحية هذا الابن النزق من الردع والتأديب هو التقيد والالتزام بالقانون الذي يحمي الجميع، والذي يجب علينا احترامه، ولذلك فإنه لاشك أن القضاء العادل سيقتص لكما منه وسيوقع عليه العقاب المستحق، وأنهى شهم حديثه بشكر رئيس الجلسة على استماعه له بروية وإمعان وعدم المقاطعة له من أي طرف من الحضور، لينهض همام من موقعه مسرعاً متوجهاً لا شعورياً نحو شهم الذي ما يزال يقف على المنصة فما عساه هو فاعل؟.