مقال : أربعون عاما .. إلا نيف
أحمد بن سالم الفلاحي
هي مصادفة بالفعل أن تلتقي شخصا بعد أربعين عاما جمعت بينكما: دراسة، عمل، حي، سفر، أي شأن من شؤون الحياة، هذا العمر، وربما يزيد أو ينقص قليلا، يبقى مسافة زمنية غير يسيرة، ذهب فيها من ذهب، وعاد فيها من عاد، هرمت الأجسام، ونمت أخرى، كلت فيها الطاقات؛ وانتعشت أخرى، قامت خلالها مدن، وتهدمت أخرى، برز فيها رجال، وانضوى آخرون، تبدلت فيها نعم، وعانت فيها شعوب، نمت فيها اختراعات، وغادرت ميادين الحياة الكثير من ذلك، بقي فيها هذا الإنسان؛ ليس بشخصه وبمسماه، ولكن بفعله ومعناه، هكذا عرفت الحياة، وهكذا ستظل، ويكون الإنسان هو الفاعل الحقيقي فيها، وفي كل مناخاتها؛ مخيرا في جوانب، أو مسيرا في جوانب أخرى.
وفي المسافة التي تبعدنا عن الآخر وفق هذا السياق؛ هنا تكمن المفارقة الموضوعية في تجلياتها المختلفة، في الشكل، في العمر، في القوة والفتوة، في الضعف والانكماش، وفي الوداع الأخير بعد ذلك حيث لا عودة، حيث لا ينفع مال ولا بنون، في هذ المسافة، كحال الأربعين خريفا، كما هو العنوان ” أربعون عاما .. إلا نيف” ربما يكبر حجم الدهشة أكثر، خاصة عندما يلتقيك أو تلتقيه؛ الذي غادرك كل هذه الفترة، وتأتي المصادفة لتجمعك به مرة أخرى، في أي مناسبة قد تكون، حيث تتضح مفارقة العمر، والجسد، والمظهر، هنا فقط تسترجع هذا العمر الذي ولّى، والذي تراه في هذا الماكث أمامك والشاهد عليك بانقضاء هذا العمر، كما أنت الشاهد عليه كذلك أيضا، هذا المصادفة قد تعيد لك ترتيب أمور أخرى في حياتك إن أنت استوعبت هذا الدرس، وإن أنت استطعت لملمة شتات نفسك، فبرهان الزمن ينظر اليه كأكبر برهان للمحاكمة، وكأكبر برهان لإقامة الحجة عليك، ألم يأت في الحديث الشريف: “لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ “.
كلنا معرضون لذات الموقف، أن نغيب أشخاصا، جمعتنا القربى بهم، لأي سبب كان، كما هو أعلاه، وتأتي المصادفة يوما بعد هذا العمر، ونلتقي من جديد، فماذا يمكن أن يقال في هذه اللحظة، سوى أخذ العبرة من ذات الموقف، ومما أغرب ما سمعت أن أختا غيبت اختها في مثل هذه الفترة الزمنية هنا في عمان، وجاءت المصادفة أن يجمع العمل حفيدي هاتين الأختين، فيعود الزمن من جديد لتشكيل دورة جديدة، أو حلقة جديدة من حلقات الحياة المستمرة، عندها فقط تستلهم العبرة أحقيتها في العودة الى حيث منازل الخطوة الأولى، عندما كنا، أو كانوا صغارا تلهو بهم الحياة كما هي العادة، أو يلهون هم في صور من صور الطفولة الباكرة.
ليس العبرة هنا في مصادفات الأشخاص فقط، ولكن في تأثير السنون عليهم، وهي آثار نحسبها إما رصيدا في أعمارنا، وإما خسارات كبيرة من رصيد أعمارنا التي ولّت، حيث استحالة عودتها مرة أخرى من جديد، فاليوم الذي ولّى يستحيل أن نعيده من جديد لكي نأخذ منه ما كنا أن نستفيد منه لو أننا عايشناه بكل تفاصيله التي يحملها بين دفتيه، والمفارقة الأخرى في هذا السياق هو هذه الخسارة الدائمة التي نعيشها مع الزمن، فرهان الاستفادة من أزماننا مقصور على استغلال كل دقيقة فيه، لأن الحساب “عن عُمُرِه فيما أفناهُ” ليس هينا في مفهوم الجزاء.