الباحثون عن الظل
سهام سالم
للسيارات ضجيج رتيب في سوق نزوى، ولأصحاب الدراجات ضجيج أكثر رتابة، والحشود، ماذا أقول عن الحشود… آه لقد اعتدت الأمر، لا شيء يزعجني إلا صوت محمد وهو ينادي على المارة، يقدم لهم القهوة ويتبعهم بقفير الرطب ويسألهم عن أحوالهم رغم أنهم غرباء، يظل مائلا رأسه إلى اليسار قليلا، فاتحًا ذراعيه ومعلقا ابتسامته في وجهه، ويضحك بأعلى صوته منصتا إليهم، عندما أسمع ضحكته أظن أن لا شيء يكدر صفو حياته، وأن حياته مثل محيط هادئ يسبح فيه كحوتٍ يعلم أن لا أحد في المحيط أقوى منه ليلتهمه. بدأت ألحظ وجوده مؤخرا، يأتي ليبيع كل أسبوع في سوق الجمعة.
بعد أن انصرف (الشيّاب) من قهوته ضاحكين متمتمين بدعواتهم له، وقفت واتجهت نحوه مسلّما، وسألته عنهم، ولم أتفاجأ حين قال أنه لا يعرفهم. استرسل محمد كعادته في طرح الكثير من الأسئلة مرغما كل أحد بأن يجيبه دون أن تكون له فسحة ليسأل. ولكنني أنهيت كل إجابة عني بكلمة واحدة: وأنت؟
– ما عرفناك الشيخ؟
+ سعيد، وأنت؟
– محمد، وين تدرس؟
+ خريج جامعة السلطان، وأنت؟
– تخرجت من كارديف في بريطانيا قبل خمس سنين، وتو أبيع رطب في الإجازات أساعد الوالد (وضحك ضحكته العالية)
+ وأنا شوفة عينك أبيع (الجح) مع أخوي من مزرعة الوالد كل يوم (وزاد نحيبُ ضحكاتنا)
– اسمح لي لكن كيف تعيل نفسك بالجح؟
+ اشتغل كاشير في كارفور هالفترة
– الله يعينك، وأنا أداوم خارج البلد من سنة. وتقدر تعتبرني رُبع كاتب، لكن سوق نزوى ما منه بد يوم أرجع البلد. نزوى تردّ الروح.
+ ما شاء الله، وليش ما تشتغل في البلد؟
– مو أسوي في البلد؟
+ تسوي بو تقدر عليه
– الحبيب ركضت في البلد أربع سنين ما ارتحت فيهن شهر، اشتغلت سائق باص، ومندوب توصيل، وكاشير في الدكاكين، وجلست كذاك لين اكتشف أن البلاد ما توسعني.
+ كيف ما توسعك وأنت عماني الله يهديك محمد؟ أصلك وفصلك هنا، طلعت من هذا التراب وبتموت فيه. من يبني البلاد إذا كلكم طلعتوا؟
– أقولك سعود
+ سعيد
– سعيد، يُقال أنه “ليس ببلد أحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك”.
+ لابس نظارتك وجالس تتفلسف، والله بلادنا من يوم صغار شلتنا وعلمتنا بالمجان، بس يوم تكبروا وتدرسوا برا تشوفوا عماركم.
– الإنسان يا سعود مثـ..
+ سعيد سعيد
– اسمحلي سعيد، صعب عليّ أحفظ الأسماء. الإنسان مثل النخلة يكبر وين ما يحصل رزقه.
+ انزين بدل لا تتغرب، ليش ما تكتب وتصير مشهور؟
– الكتابة ما تأكّل عيش، بعدين من قالك أبا أصير مشهور؟
وضحك مرة أخرى، ضحكته الواسعة، وقدم لي قهوته كما فعل مع كل المارة منذ صباح اليوم. ثم أطلّ وجه شاب آخر، مناديا محمد من بعيد، لوح له محمد بيده مرحبا به وجلسنا ثلاثتنا أمام القهوة. كان الشاب صديق محمد، عرفت منه أنه يدرس في كلية التقنية ويعمل في أوقات فراغه في محل الذهب ليعيل أسرته مع أخته، توصله أخته إلى السوق كل يوم فهو لا يملك سيارة، ثم تذهب إلى مقر عملها.
أعرف أن محمد ومن هم مثله، قرروا أن يعيشوا فوق الظل، مواجهين لهيب شمس الشرق، مفتخرين بسمرتهم، ومشتاقين دائما إلى البقعة التي ولدوا فيها تحت ظل بارد. هم الباحثون أبدًا عن الظل… أولئك الكادحون. أما الحشود.. آه ماذا أقول عن الحشود؟ لقد أعتدت الأمر، لا شيء يزعجني إلا صوت محمد وهو ينادي على المارة…
“إن الأيام في حياة شعبنا لا تقاس بوحدات الزمن، وإنما بوزن ما تفتحه من آفاق، وما تلهمه من أفكار، وما حولته من الآمال إلى واقع حي”.
– قابوس بن سعيد، ١٨ نوفمبر ١٩٧٤م
“ليس الأمل مادة ولا فكرة.. إنه موهبة.” – محمود درويش