مشروع مبادرة التجديد الحضري لقرية المضيرب التاريخية
حمود الحارثي
الحديث عن قرية المضيرب التاريخية (مسقط الصغرى) حاضرة ولاية القابل ذو شجون، ولربما هي واحدة من القرى التي تألمت كثيرا عبر سنوات شداد عجاف، فمن عاش حقبة السبعينات والثمانينات وحتى منتصف التسعينات يدرك جيدا معنى ذلك الألم حد الإشفاق.
بدأ حديثه بأخذ نفس عميق لعله يحجب تلك الدمعة الآيلة للسقوط من عبق ذكريات الماضي المتدلية من على غيوم رموش عينيه المبشرة بإنهمار المطر.
البداية كانت من مجلس العلم والذكر، لفضيلة الشيخ العلم والعالم العلامة القاضي سالم بن حمد بن سليمان الحارثي، الذي ما كان يفتأ مجلسه من طلبة العلم ومجالسي الشيخ، وأصحاب الحاجة، وطالبي الصلح والفتوى فترة الظهيرة، وبين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، ما بين مجلسي الحارة شتاء، ودبيك فترة القيظ، ومسجد الحساب وحلقات تعليم القرآن والفقه والنحو وتلقين الصبيان، ومدرسة تعليم وتحفيظ القرآن الكريم المجاورة لمسجد “بوركع”، مرورا بمساءات الشعر والأدب التي يزخر بها مبرز الشيخ أحمد بن عبدالله الحارثي (شاعر الشرق) في برزته ببيت “المذرية”، يوم كانت المضيرب تعج بحلقات العلم وأماسي الشعر والأدب المتوقدة كمنارات طبخ الفاغور في أيام حصاد المبسلي، أو كالمياه المتدفقة في سواقي الفلج أيام الخصب. ولا أخفيكم سرا بأنني كنت أسترق النظر إلى الخطوط التي نحتها الزمن على جبينه؛ محاولا إعتصار ما اختزلته صناديق الزعفران في ذاكرته السبعينية.
ومن أمام غرفة حارس البلدية بدأت رحلة جديدة، أخذتنا إلى البوابة الشرقية القديمة المقابلة للملعب وجلسات العصر حتى ما قبل غروب الشمس؛ حيث كان على الجميع العودة بعد صلاة المغرب مباشرة إلى المنزل لتناول العشاء بشكل إلزامي حسب العرف السائد لدى أفراد العائلة في كل بيت من بيوت القرية، ليلتفت قليلا جهة الشمال الغربي محدقا بحائط بلدية القابل مستطردا حديثة عن زمن احتضان ذلك الحائط للمؤسسات الحكومية والأهلية قبل أن تلملم حقائب الرحيل عن المكان، ويداه تقلبان صفحات مجلة “الغدير” التي رافقة حديثه عن بطولات وإنجازات نادي المضيرب الرياضي الثقافي الإجتماعي وقصة تأسيسه وإشهاره وإصداره لمجلة “الغدير” التي وأدت في طفولتها، وكيف كان أهالي القرية يطرقون باب الطبيب بعد أن يغلق مركز المضيرب الصحي أبوابه ليقدم لهم الرعاية الصحية بكل سرور، و كيف كانوا يرسلون رسائلهم الخطية لمن غيبهم الزمن سعيا لطلب العلم أو الرزق من أبناء القرية عبر مكتب البريد الذي طاب به المقام أمام مسجد “الحساب” وسط سوق المضيرب؛ ليكملوا الطريق لإنجاز معاملة إدخال الكهرباء لمنزل جديد أو إعادة الخدمة لمنزل مجدد بمكتب الكهرباء؛ لينعموا بعدها بسهرة رائعة تجمعهم برفاق العمر في صرح النادي بعد أمسية ثقافية أو أدبية أو شعرية سبقتها بليلة على مسرح مدرسة صلاح الدين الأيوبي، أو قضاء وقت شيق مع منافس شرس أرهقه التركيز على طاولة الشطرنج التي امتزجت لحظاتها مع كوب شاي أغرق فيه إثنان “بتي” من شاي الليبتون مع ملعقة سكر على شرفة مطعم الريان بعد عودته من جلسة قعد الفلج يوم الخميس بعد صلاة العصر، شاقا طريقه إلى الخشبة ليحدد موعد الفلج بعد حساب الوقت في الباحة الخارجية لمسجد “الحساب”.
يواصل حديثه بعد أن أخذ نفسا عميقا مصحوبا بتنهيدة الماضي.. يبتسم.. يحدق في السماء.. تتدحرج الكلمة عبر حنجرته المبحوحة لتسابق تلك الدمعة المنحدرة على خده المتجعد عن صباح يوم الجمعة، وهي إجازة نهاية الأسبوع الوحيدة في ذلك الوقت، وكيف يتصدر ضجيج شباب القرية المكان في مركاض “كشام”، وتحت ظلال شجر الصبار في باحة السوق؛ لتنقسم الفعاليات بين لعبة “أم المكاب”، و” التشقي و”الصيرة”، و”الحواليس”، و”واحد وستين”؛ ليعود للحديث مجددا عن ليالي رمضان ونادي المضيرب ومكتبته ومسرحه، وعن معسكرات العمل والزيارات المتبادلة بين النادي ونادي الطليعة.
يتوقف قليلا.. يغفو بعينيه التي أنهكها تعب استرداد شريط الماضي؛ ليستذكر استعداد القرية لصباح هبطة ثامن والنهوض الباكر لإصطحاب الأبناء إلى مركاض “كشام” لمشاهدة عرضة الخيل والإبل على أهازيج الرزحة التي تردد صداها أبراج الجبال المتفاعلة مع أصوات التفاقة (البنادق)، في أيدي الأطفال المصنوعة من مفاتيح “بو رزة” المحشوة بأعواد الكبريت عند طرقها على الحجر.
سنوات عجاف مرت بقرية المضيرب التاريخية وسوقها ومركاضها اللذان يأنان من ألم إندثار سورها ودراويزها وأبراجها وبيوتها الأثرية، وإشتياقا لتلك العرصات التي احتضنتها في عصرها الذهبي، فمسقط الصغرى التي كانت وجهة للقوافل لم تعد كما كانت!
سنوات عجاف استوقفتنا من خلال محطات وأوراق وقصاصات مبعثرة تحكي تاريخها العريق، طالعناها عبر صفحات المجلات وتحقيقات مراسلي التلفاز والإذاعة والصحف وقصائد من رحلوا وبين أقلام من كتبوا، وشاهدناها في صور من وثقوا عبر كاميرات التحميض الخاصة أو تخيلناها عبر تاريخها المروي الشفوي، يحدوه الأمل إلى أن تجمع تحت سقف واحد كمركز ثقافي أو مكتبة أو متحف تبقي ما تبقى من هذا الإرث محفوظا من الاندثار، ومرجعاً للباحثين، وهوية للأجيال المتعاقبة.
يكمل حديثه وفنجان الشاي يتلألأ بين أصابعه.. منذ ثمان سنوات تقريبا في صحوة غشاها النعاس انتشت القرية من جديد بسواعد أبناءها لتجدد نبضها على وقع مبادرة المجتمع الفاعل السنوية (المضيرب في قلوبنا.. المضيرب تستحق)، أملا في أن تعيدها إلى خارطة الزمان، بصحبة هالة إعلامية تكررت في كل عام على مدار ثمانية أعوام؛ هدفت إلى إبراز دورها التاريخي ونموذجها المعماري وما تحويه مناديس السرتي من وثائق وكتب ومقالات وأشرطة مسموعة ومرئية وصور فوتوغرافية نشرت معظمها في مختلف وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي، سعيا للتذكير بمكانتها التاريخية والسياسية ومقوماتها الإقتصادية والسياحية.
وقبل أن يرحل، رمقني بنظرة قائلا: ” آن الأوان لنا أن نستريح، وآن لكم أن تكملوا المسير.. البركة فيكم أبناء المضيرب، وآمال قريتكم معقودة على نواصيكم”.
لتأتي بعد هذه السنوات العجاف خطة مشروع مبادرة التجديد الحضري لقرية المضيرب التي تبناها مكتب محافظ شمال الشرقية، ومكتب والي القابل، مع عدد من المؤسسات الحكومية بمشاركة مجتمعية مجددة للهمم؛ باعثة للأمل من جديد، لعلنا نستيقظ ذات صباح على ضجيج معدات مشروع مبادرة التجديد الحضري القادم بما تستحقه.