جريمة وعسس -الجزء الخامس
خميس بن محسن البادي
في الجزء السابق تابعنا أن فريق العمل تمكن من الوصول للمجرمين الثلاثة، وقد اعترفوا بجرمهم بما يتوافق مع مجريات وأحداث الواقعة، وما يتفق من معالم فنية متحصل عليها ناجمة عن جرمهم، وأن الشرطة استدعوا الزوجين المعتدى عليهما لاستكمال باقي الإجراءات.
حضر “شهم” لكنه لم يتعرف على أي من المتهمين الذين أبقتهم السلطات رهن التوقيف، بينما حضرت “نغم” في وقت لاحق وتعرفت على المقبوض عليه في المتجر التجاري بوصفه أول من حاول التعدي عليها حين أقدم على كسر زجاج المركبة، وعلى هَدْيَ ذلك وما تم جمعه من أدلة وقرائن سواء تلكم التي سبقت القبض على الجناة أو بعده؛ فهذه هي قضيتهم قد جمعت أوراقها في حافظتها وأحيلت والخصوم للجهات القضائية، وبينما أنهى فريق العمل مهمته أعد تقريراً عن نتائج العمل مرفوعاً لهرم السلطة، موصياً في حيثياته بتكريم الطبيب نظير تعاونه مع فريق العمل، وحان يوم التقاضي، ومثل المتهمين الثلاثة في قفص الاتهام بقاعة المحاكمة؛ لكنهم نفوا جميعهم جل ما نسب إليهم، وجُمع ضدهم مدّعين بأن اعترافهم ذلك إنما جاء تحت الضغط النفسي الذي أجبرهم على قول ما صرحوا به مسبقاً؛ ليتجنبوا أي من أساليب الضغط والعنف ضدهم، متجاهلين أو متناسين ما هو ثابت ضدهم ومشككين في مصداقيته، واهمين أنفسهم بأن ذلك ما هي إلا ادعاءات للإيقاع بهم، لكن ذلك لم يشفع لهم أمام القضاء نظير ما توافر ضدهم وعليهم من براهين دامغة وغير قابلة للتشكيك بها.
فلم يأبه قاضي الموضوع بادعاءاتهم الكاذبة، مستنداً إلى الأدلة القاطعة في ما نسب إليهم رغم محاولة موكلهم القانوني استعطاف هيئة المحكمة الذي لم يجد هو الآخر أي مدخل في القضية يمكنه الاستناد عليه؛ ولذلك لم يكن أمامه عدا المطالبة بتخفيف العقوبة على موكليه وهذا ما لم يناله أيضاً، حيث أوقع عليهم القاضي الحكم العادل الذي يستحقونه جزاء فعلهم والذي تمثّل بين السجن والغرامة والتعويض المادي جبراً للضرر وما تسببوا به من أذى في حق الزوجين المدعيان وما أثاروا به من حفيظة واستنكار للرأي العام؛ ليسدل ستار هذه القضية أخيراً، ويعود كل من “شهم” و”نغم” كما كانا لممارسة حياتهما العادية ويتفرغا لتربية صغيرهما (فهم)، وقد نسيا ما مرا به من محنة على مدى أكثر من عام، ولم ينسى المسئولين هنا الجهود التي بذلها فريق العمل خلال فترة البحث والتحري، فتم تكريمهم تقديراً لجهودهم المضنية التي قاموا بها طوال الفترة الماضية والتي كان النجاح حليفهم فيها، كما لم يكن الطبيب بمنأى عن هذه الحفاوة مقابل تعاونه ودوره الفاعليْن في القضية، فحظي هو الآخر بلفتة كريمة لتعاونه المثمر والبناء؛ وذلك وفقاً لما كان قد أوصى به رئيس الفريق في تقريره. جاءت هذه اللفتة المباركة رغم العتب والتأنيب اللذين لقيهما بداية الوصول إليه لإهماله الاطلاع على وثيقة المريض لرصد بياناته من خلالها في سجلات عيادته، ولكن ذلك كما يدركه المسؤولين هو شيء استحق عليه العتب والتأنيب وتعاونه لتحقيق أهداف العدالة أمر آخر استحق عليه التكريم.
وتمر الأيام، ويكبر “فهم” في حضن والديه وأجداده وفي محيطه الأسري الذين أحاطوه بالرعاية والتربية الطيبة والتنشئة الحسنة القائمة على حسن الخلق وفضائل الصفات، وهذا هو اليوم تلامس خطواته عتبات أبواب المدرسة بمراحلها المختلفة، حيث ألحقه مؤخراً والده بالمراحل التمهيدية من مراحل التعليم العام، وفي الوقت ذاته تحبل “نغم “بشقيق أو شقيقة ل”فهم”، كما تزاول الأسرة شؤون وروتين حياتها اليومية، واجبات الوظيفة، متطلبات الحياة، الزيارات الاجتماعية، التجوال والترفيه هنا وهناك، ومرت أشهر الحمل وتلد “نغم” “سهم” مولودها الثاني شقيق “فهم”، وأغدق والديهما عليهما الحب والحنان وبمختلف كماليات الحياة، ونشآ شابيْن خلوقيْن مطيعيْن لوالديهما، يحترما الكبير ويوقرا الصغير، ويتمتعا بصفة اللِّهَم، وحيث أكمل “فهم” آخر مرحلة للتعليم العام فقد التحق بالجامعة لمواصلة دراسته، وهنا كان للبيئة الجديدة التي انتقل إليها “فهم” عالمها الخاص غير التي كان هو فيها منذ ولادته وحتى إنهائه المرحلة الأخيرة من التعليم العام، بينما أخيه “سهم” يحث الخطى كي يلحق بركب أخيه، وقبيل التحاق “فهم” بالجامعة ها هو يحوز على مركبته الخاصة التي امتلكها مؤخراً، وذلك بعد أن اجتاز الفحص المقرر لنيل رخصة قيادة المركبات، فامتلك المركبة التي دفع قيمتها والديه، فهو صار بحاجة إلى وسيطة نقل خاصة به للتنقل بها من منزله إلى الجامعة والعكس وقضاء بعض خصوصياته دون اعتماده على الآخرين، وفي أروقة وبين دهاليز الجامعة التقى “فهم” بصنوف من البشر منهم من سبقه ومنهم من ماثله ومنهم من سيلحق به، وكان من بينهم من هو في مستواه الاجتماعي والمعيشي، ومنهم من هو أعلى منه مرتبة في ذلك، وهناك الأدنى؛ جميعهم جاءوا بطريقة أو بأخرى يتلقون علومهم الجامعية، وبين هذه الفئات التي وجد “فهم” نفسه وسطها في الحرم الجامعي شخصين يعملا في نظافة المرافق وتقديم بعض الخدمات للطلبة والموظفين، ويتضح أنهما يعانيا الوَسَن في الوقت ذاته، إنهما “نجم” و”كرم”، اللذين أخذ “فهم” يعتمد عليهما من وقت لآخر في قضاء بعض شؤونه الخاصة، كنظافة مركبته وغرفته وما ماثل ذلك من الشؤون الشخصية مقابل بعض المال يدفعه لمن يقع عليه اختياره في تكليفه بأي من المهام، وبمرور الأيام توطدت العلاقة بين الثلاثة، وازداد تقرب “نجم” و”كرم” من “فهم” أكثر بعد أن وجدا عليه يُسْر الحال ورغادة العيش حتى صاروا أصدقاء، وشيئاً فشيئاً بدءا يستميلانه إلى عالمهما الذي كان للأسف غير قويم بما فيه من المجون المخفي، والذي كان من بينه سهر الليل وكسل النهار وعالم التدخين والسكر بما يتبع ذلك من مصاريف يدفعها في غالب الأحيان فهم، ولأنه تعرف على هؤلاء الأشخاص وهم لا يمتلكون وسيلة نقل فقد كانت مركبته تحت تصرفهم بحكم الصحبة التي أضحت بينهم ينطبق هنا المثل القائل(الصاحب ساحب)، وإنه الاستغلال السيء المثالي للمورد المالي الذي عرفا توظيفه لنفسيهما وهما اللذين يفتقرا في الأساس إلى مثل هذا المورد الذي وجداه ضالاً مع “فهم” بطيبته التي تربى عليها وعطائه لآخرين الذي اعتاده من ذي قبل، فهل هو أخطأ هنا حين أحسن الظن في هذين الشخصين وتعامل معهما كما كان عليه وهو بين أهله وأقاربه ومحيطه العائلي وتحت نظر والديه أو أن لهذه الصحبة إيجابياتها التي ترتيجها منهم إدارة الجامعة وذويهم ووطنهم ومجتمعهم.
وبدأ ارتفاع معدل مصروف فهم يوماً بعد آخر، ومع هذا التحول الحياتي لـ(فهم)أصبح طلبه المستمر للمال أمراً واقعاً في حياته في الآن الذي وجد فيه والديه أنهما باستطاعتهما تأمين مطالبه المالية لا سيما وأنه حتى اللحظة ليست هناك أية صعوبات تذكر أو مشاكل تعرقل مسار هذه المستجدات في حياة فهم، وهما لم تراودهما أية شكوك في ابنهما ربما لأنهما اعتبرا مصروفه حتى اللحظة في حدود المعقول والمطلوب، مقارنةً بوضعه كطالب جامعي وحاجة الفرد للمال التي تبدأ في الارتفاع من سنة لأخرى وتقديرهما كوالديه لذلك وهما كانا قد مرا بهذه المرحلة ويعرفا متطلبات الحياة جيداً، فاستمر الحال على ذلك ولكن وعلى حين غرة أفَلَتْ حياة “كرم” ففاضت روحه إلى بارئها.