2024
Adsense
مقالات صحفية

حكايتي مع مسن .. ٣

سميرة أمبوسعيدية

حكايتي
تبدا اليوم مع إحدى المسنات، بداية تحمل معها واقعا نأسف عليه لما وصل إليه وضع بعض الأبناء من تقصير في حق رعاية والديهم… كان اللقاء هذه المرة عندما كنت ذاهبة لزيارة أحد أقربائي، وهناك التقيت بامرأة مسنة كانت إحدى جيران قريبتي، تسكن في الجوار، قدر الله لي أن أسلم عليها وأتجاذب أطراف الحديث معها، وقتها بدأت هذه المسنة تتمتم أمام الجميع بنبرات الصوت الذي يحمل وراءه ألف حكاية، الصوت الحزين المثقل بالوهن وأطلقت العنان لصوتها وقالت: ضربني ولدي، وأنا صائمة وسط ذهول واستغراب من كان حاضرا في ذلك اليوم، وبدأت ترددها مرارا وتكررا؛ حينها أسرعت إحدى قريبات المسنة، تحاول إسكاتها ولكن دون جدوى إلى أن همت بأخذها من ذلك المكان وإرجاعها للبيت؛ حتي لا ينكشف الأمر أمام الملأ، والمرأة على حالها تتمتم.

وقتها أدركت أنها تحمل بين ثناياه حزنا دفينا، وكانت لها رغبة بالتحدث وتفريغ ما في قلبها، ولكن طريقة إسكات تلك المرأة أمر غريب، وهناك وراءها حكاية محزنة، وبدأت معي حالة من التأسف؛ لأننا لم نتمكن من مساعدتها أو التخفيف عنها، حاولت مرارا الذهاب لبيتها والسؤال عنها، ولكني ترددت في هذا الأمر؛ تحسبا لأي إحراج قد أتلقاه من أحدهم، واكتفيت بالدعاء لها بأن يريح الله قلب تلك الأم، وأن يسعدها سعادة تنسى بها وجعها.

ومضت الأيام سراعا إلى أن التقيت بها مرة أخرى صدفة، ولكن هذه المرة كان لقائي بها في المستشفى المرجعي، كانت مستلقية على فراش المرض، وكانت تعاني من وعكة صحية شديدة لا تسيطع الحراك أو التحدث، وكان في صحبتها أحد الأبناء من الأقرباء لم أتحمل الموقف ونقذ مني الصبر، وساقني الفضول إلى السؤال عنها والاطمئنان عليها، ورد علي قريبها: كان الله في عونها، وجبر الله كسر قلبها؛ فلقد عانت كثيرا في حياتها، وبدأ في إخباري بأن هذه الأم المسنة تحمل في قلبها حمل الجبال الثقال، في فترة وجيزة حينما قررت ترك بيتها قبل رمضان بأيام والذهاب لبيت ولدها لتقضي فترة الشهر الفضيل في بيته مع أسرته وأولاده، لم تكن تعرف أنها تنتظرها أيام صعاب.

حملت حملها وذهبت مع ولدها إلى أن أتى اليوم الحزين في نهار رمضان عندما كانت تحاور حفيدتها، وبادرت المسنة بالنقد على تصرفاتها، وما كان من الحفيدة إلا أن تخبر والديها بالأمر، وأتى الأبن إلى أمه مسرعا ينهرها بألفاظ قاسية لا تقال في حق الأم، وبدأت هي الأخرى بالرد على ولدها؛ فما كان منه إلا أن يركلها برجله، وأودت بها في الأرض… بكت الأم كثيرا، وقال لها: لا مكان لك في بيتي، وسأذهب بك إلى ابنتك… أخذها إلى السيارة مع أغراضها وأدويتها إلى بيت أخته التي هي أشد منه عقوقا، وأكثر قسوة، لم ترحم ضعف أمها، وهوان أمرها وقالت لأخيها: اذهب بأمك بعيدا؛ فأنا معي أولادي وزوجي، ولا أستطيع الاهتمام بها؛ وقتها الأم صرخت وقالت لهم: اذهبوا بي لأبناء أخي؛ لعلهم هم أحن منكم، ولعل في قلوبهم محبة لي؛ لأني عمتهم وربيتهم معكم، وفعلا ذهبوا بها إلى أولاد أخيها، وبدون سابق إنذار يطرق باب البيت ويخبرهم هذه عمتكم خذوها معكم، ولم يخجلوا من أنفسهم، ولم يحرك في قلبهم حرمة الشهر الفضيل، أخذها ولد أخيها لبيته، وأحسن ضيافتها والأعتناء بها، وقضت الشهر الفضيل معهم إلى أن بدأت تقترب أيام العيد، وحن قلبها لأولادها وأحفادها.

نست الوجع والألم، وطغت على قلبها عاطفة الأمومة وطلبت من ابن أخيها أن يتصل بولدها، وأنها تريد أن تقضي العيد معهم، وأخبرته بأنها ستظل ساكتة، ولا تتدخل في شؤون أبنائه، ولكن جاء الرد لابن الأخ قاسيا؛ فلقد رد عليه ابن المسنة: لا مكان لها بيننا ودعوها معكم.

يا الله!! قلوب كالحجارة بل أشد قسوة لما كل هذا؛ لأنها نقدت؟؟؟ ما العيب في ذلك؟؟؟ أليس لها حق في تربية الأحفاد؟؟؟ سبحان الله! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
واصل الحديث معي وأخبرني بأنه أصبح علينا العيد وهي تبكي على أولادها وهجرانهم لها حاولنا التخفيف عنها ومواستها، ولكن لا جدوى، وخرت في الأرض من شدة الحزن، وأصيبت بجلطة دماغية، وأصبحت اليوم بلا حراك؛ فلقد أصابها الشلل وفقدت القدرة على الكلام؛ لأن الجلطة أودت بحياتها وصحتها، وأصبحت أسيرة الفراش مع أبناء أخيها، وسقطت على الأرض وهي تردد: ضربني ولدي وأنا صائمة.

يا ترى! كيف حال قلوب أبنائها؟ كيف ينظرون لنفسهم؟ ألا يخجلوا من رؤية أمهم وهي على فراش المرض؟ ألا ينتابهم الخوف من الزرع الذي زرعوه وينتظرون الحصاد من أولادهم؟ ألا يكون في قلبهم أمنية ينتظرون من أمهم أن تقول لهم: سامحتكم أم سترحل الأم من الدنيا وفي قلبها حزن من أبنائها وفرحة واستبشار من أبناء أخيها، ونسأل الله أن يلطف بها؟

وفي ختام حكايتي أقول لكم: هنيئًا لكم أبناء الأخ على بركم العظيم بعمتكم، والله لن ينسى فضلكم؛ فصنائع المعروف لا تضيع ولو بعد حين.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights