ماذا يضيرك؟
د. محفوظ بن خميس السعدي
تطلّ على الشاشة جميلة الجميلات، مذيعة تشعّ حناناً وتألُّقاً وطِيبة، المذيعة كلثم بنت محمد الزدجالي، لتذيع الآن في ساعة من ساعات عام 1992م، ونحن على مشارف العيد الثاني والعشرين المجيد لتحدث بدورها دويّاً في أسماعنا بقصيدة مطرزة بحلل عمان، ألا وهي:
أنتِ المحبة يا عمان، يسربل فيه الشاعر القدير الأستاذ ذياب بن صخر العامري قلائده الجميلة في قصيدةٍ تجلّت كمسكوكة ذهبية من الكلمات الشاعرية، بصوت محمد المخيني، وتأتي هذه القصيدة مدسوسة دسّاً في القلب، وتنغرز بكل جماليات الكلمة والحرف والمعنى، لتعطي انعكاساً منطقياً لأرض يعيش عليها شعبٌ، وصفها سيد عمان الأول الخالد طيب الله ثراه: (لقد فُطرنا في هذا البلد – ولله المنة والحمد- على السماحة وحُسن المعاملة ونبذ الأحقاد ودرء الفتن والتمسك بالأعراف والقيَم القائمة على الإخاء والتعاون والمحبة بين الجميع… وكما لا يمكن السماح باحتكار الرأي وفرضه على الآخرين؛ لا يمكن في الوقت ذاته السماح بالتطرف والغلوّ من جانب أيّ فكرٍ كان؛ لأن في ذلك إخلالاً بالتوازن الواجب بين الأمور، والذي على أساسه تُتخذ القرارات الحكيمة التي تراعي مصالح الجميع. إنّ الفكر متى ما كان متعدداً ومنفتحاً لا يشوبه التعصب، كان أقدر على أن يكون أرضية صحيحة وسليمة لبناء الأجيال ورقيّ الأوطان وتَقدُّم المجتمعات؛ وإن التشدد والتطرف والغلوّ على النقيض من ذلك. والمجتمعات التي تتبنّى فكراً يتّصف بهذه الصفات إنما تحمل في داخلها معاول هدمها ولو بعد حين؛ لذلك نؤكد رفْض مجتمعنا العماني لأية دعاوى لا تتفق وطبيعته المتسامحة المعتدلة… فسياسة السلطنة قائمة على تحقيق التوازن في الحياة).
وتتسق هذه الكلمة النيّرة وتتناغم مع الوارد في خطبة عيد الأضحى المبارك لهذا العام 1445 هجري، ونقتبس منه: (لقد منّ الله سبحانه وتعالى علينا في هذا الوطن العزيز أن أسبغ على أبنائه بيئة اجتماعية يسودها الأمن والوئام، وتحفّها السَّكينة والطمأنينة، والأمن والاستقرار ليسا رفاهية الإنسان والأوطان، بل لَبِناتٌ أساسية ينعقد عليهما بنيان المجتمع والوطن، ونهوض أبنائه، وازدهار أحواله، وعليه، يجب علينا جميعاً، ونحن نعيش نفحات هذا العيد، أن نستشعر وندرك عِظم هذه النعم، وأن نشكر الله قولاً وعملاً، وأن يعين بعضنا البعض على المحافظة عليها، فهي مسؤولية جماعية، تستوجب التعاون على البر والتقوى).
وبلمسة زر نتنقل إلى النطق السامي لمولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق آل سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – في فبراير عام 2020م حيث قال جلالته: (أبناء عُمان الأوفياء، إن الانتقال بعمان إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم في شتى المجالات، سيكون عنوان المرحلة القادمة بإذن الله، واضعين نُصب أعيُنِنَا المصلحة العليا للوطن، مسخرين له كافة أسباب الدعم والتمكين. وإننا إذ نعاهد الله عز وجل، على أن نكرس حياتنا من أجلِ عُمان وأبناء عُمان؛ كي تستمر مسيرتُها الظافرة، ونهضتها المباركة، فإننا لندعوكم لأن تعاهدوا الله على ذلك، ونحن على يقين تام، وثقة مطلقةٍ بقدرتِكم على التعامل مع مقتضيات هذه المرحلة والمراحل التي تليها، بما يتطلبه الأمر من بصيرة نافذةٍ وحكمةٍ بالغة وإصرار راسخ وتضحيات جليلة).
هذه الومضات الوضاءة التي تحدد مسار التفاني لخدمة عماننا الحبيبة، نهجٌ تسير عليه بلادنا الغالية عمان، وستظل عمان تنضح بمُثل وقيَم ومبادئ تنصهر في شعب يحبّ الحياة كرقم ضمن الأرقام الصعبة في المعادلة الكونية وليس الإقليمية بل البشرية جمعاء، حيث خصّها رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة مختومة بالختم المحمدي، وتخصيص هذه الرسالة لمخاطبة أهل عمان إنما هي دليل على مكانتهم وعلو قدرهم عند نبي الله الموحى إليه من الله جلت قدرته، والذي كرم نبيه بمكارم الأخلاق ليجعل عمان ضمن من هم يوجّه إليهم تعاليم رب العزة؛ وبالتالي ماذا يضيركِ يا عمان لو سكنتِ في قلوب الكلّ، وأصبحتِ أولاً وثانياً وثالثاً؟ ماذا يضيرك يا عمان لو كنت أنت محراب السلام وأنت قبلة الحب؟ ماذا يضيرك لو كرسنا حياتنا لأجل عمان فقط؟ ماذا يضيرك يا عمان لو فطرنا على إشاعة المحبة والتعاون والإخاء ونبذ الأحقاد ودرء الفتن والبعد عن التطرف والغلو والعيش بكل حب وسعادة؟ ماذا يضيرك يا عمان لو تركنا كل مشاكلنا وتفرغنا لحبك فقط وتركنا أحمالنا وأثقالنا وتمسكنا بقيَمنا وأعرافنا وتمسكنا بتلابيب طبيعتنا السمحة؟ ماذا يضيرك يا عمان لو استشعرنا عظَمة الأمن والأمان والاستقرار والاطمئنان قولاً وعملاً وهي ليست رفاهية مجانية بل هي بناء شامخ تمّ وضع لَبناته في سنوات، وبعمل مضنٍ وشقّ طريقاً بشقّ الأنفس من أجل وضع عمان في هذه المكانة؟ ماذا يضيرنا كعمانيين لو وطنّا أنفسنا على السكنية والسكون والركون إلى السلم الأهلي والتمتع بما حبا الله به عمان من بلسم يشفي الجراح ويعطر الجو بزهور الجبل الأخضر الراسي على قمة جبال عمان الخضراء؟ ماذا يضيرنا لو تركنا كل شيء ويممنا وجوهنا شطر صلالة بربيعها المزهر والهواء العليل المكافح للهيب حرارة الجو، واستكانة الروح لمناظر خلابة تسلب الألباب؟ ماذا يضيرنا لو أحببناك مرة وتركنا مطالع الكل وركزنا في مطلعنا فقط؟ ماذا يضيرك لو مندوسكي يظل هكذا مغلقاً أمام آفات العالم كلها من فتن وشقاق ونباتات كريهة ترفضها تربتك، وظل مندوسكي عامراً بالمحبة والوئام والتمكين والأخلاق العمانية السمحة والذود عن حياضك والوقوف خلف القيادة المظفرة التي يقودها سيدنا جلالة السلطان هيثم بن طارق آل سعيد – يحفظه الله ويرعاه – الذي يقود مسيرة وطننا المظفرة نحو القمة والرفعة والعزة، فعلينا أن نحب عمان، فماذا يضيرنا أن لا نكتب عن الأمان والاستقرار والأمن ونحن ندنو بطائرتنا من السماوات العُلى إلى مطار مسقط الدولي قادمين من بلد يموج فيه القلق والخوف ويتخطفهم الموت من كل جانب في أتون ثورات وأتون أحداث تقلق العالم، وترى الوجوه في ترانزيت المطار في ذلك العام المشؤوم، كيف أن الوجوه خائفة، وهي تتجه إلى تلك البلد الذي فقد عملة نادرة، ألا وهي عملة الأمن والسكينة والأمان والاستقرار، بينما أحطّ رحلي في مطار بلدي بكل فخر واطمئنان، والسعادة تعلو وجهي بأنني أنعم ببلد يتدثر بالطمأنينة، ويتزمّل بالتآلف في حضن وطننا، يتوشح بالمؤتلف الإنساني كألوان الطيف وهي توشح السماء الصافية، وسنظل هكذا بإذن الواحد الأحد، محافظين على تجربتنا، وعندما تطل علينا مذيعتنا لتشيع الفرحة من خلال: أنتِ المحبة يا عمان منذ 1992م، ونحن أبناء 1976م رأينا بأم العيون ماذا تعني أن تكون ضمن بلد ينعم بالهدوء، فقد مرّ الكثير حتى عامنا هذا 2024م، وبالتالي التنازل عن هذا الوضع صعب، بل مستحيل وغير ممكن، فماذا يضيرني لو أترك القلم والورق وأسترق السمع ليصدح مطربنا الرائع: أنتِ المحبة ياعمان، بقصيدة المبجل الشاعر العامري في مذياع السيارة التي تمرّ بين جنبات الاخضرار، متوجهة إلى البلد بعد رحلة سفر مضنية وتردد معه:
ماذا يضـيركِ لـو عشقـتكِ مـرّةً
وضـمـمتُ قــدّك بكـرةً وأصيـلا
وسـدنت في محراب حبكِ خـاشـعاً
أدعـو الإلـه مـرتـلاً تـرتـيــلا
أن يحـفــظ الـودّ المقـدس بيـننا
وبـأن تـكوني الحـــب والتقبـيلا
وبأن تـكـوني زهـرة عطـريــةً
لا تعـرفـين إلى الــذبـول سبـيلا
وبـأن تـكـوني بلسـماً في خاطري
يشـفي الجـراح فلن أكـون علـيلا
وبـأن أكـون لـديك أخلـص عاشقٍ
فأردد اسمـكِ كـالنشـيـد جميـلا
وأرى جـمــالك صـورةً خـلابـةً
أرنـو إليـها مـا حييـت طـويـلا
كـم سـار ذكـركِ في البرايا مشعلاً
وأنـار أهلك في الدجـى قنـديــلا
ولئـن ذوى عــود الزمان بـأمـةٍ
يبـقى زمانـك للـورى أبـريــلا
وإذا ورود الشــوق ماتت حسـرةً
تنـمو ورودك للـجــوى إكـليـلا
لا تـسأليـني أن أؤول لـوعــتي
فالشـعر يأبى البـوح والتـأويـلا
هـل تصبـحين حبـيبتي وخليلـتي
فـبـدون ودك لا أود خليــــلا
لولا ودادك مــا نظمت قصائــدي
ولما غـدا حبـل الهـوى موصولا
أنـت المحبـة يا عمـان ولا أرى
من غير حبـك يـا عمـان بديــلا
كـوني إذاً حـباً عظيـماً خالــداً
كـوني الرؤى كوني الصفـاء دليـلا