قيمةُ كُلِّ امرئٍ ما يُحسِنه
خلفان بن ناصر الرواحي
“قيمةُ كُلِّ امرئٍ ما يُحسِنه”، حكمة بالغة قالها الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه وأرضاه. لقد ذكر ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم) ووصفها بقوله:”لم يسبقه إلى هذا الكلام أحد، وهو من الكلام العجيب الخطير”.
نعم، هذا هو المنطلق الذي ينبغي على كل فرد أن يفهمه وينتهجه في حياته كُلَّها دون أن يقحم نفسه في كل شيء دون دراية ومعرفة. إنها حكمة بليغة؛ هي في العدد أربعُ كلمات، لكنَّها تزن في قدْرها الكثير من المعاني!
إنَّ هذه الحكمة العظيمة تعني أنَّ قيمة المرء ومنزلته بأمرين مُهِمَّيْن، وبهما تستقيم حياةُ الفرد والمجتمع معا، وتسمو بهما الأمَّة نحو النجاح والفلاح، في حاضر دنياهم وأُخراهم إن أدرك كل منا تلك المعاني السامية التي تعنيها؛ فالأمر الأول، أن يعمل الإنسان بجدٍّ وإخلاص، فيما يُحسنه ويُتْقنه من عِلْمٍ وعمل، والأمر الثاني، أن لا يخوضَ ويعمل ويتكلَّم بغير ما يُحسنه ويُتْقنه؛ فقيمة ومكانة كلِّ واحدٍ مِنَّا فيما يُجيدُه ويُتْقنه من عِلْمٍ وعمل، فإذا أخلَّ بما يُحسنه ويُجيدُه، أو عمل بغير ما يُحسنه ويُتقنه، وخاض بغير تخصُّصه ومجاله؛ ذهبت قيمته ومكانته، وسقط من أعيُن الناس، وصار مُعَرَّضًا لطعنهم واتِّهامِهم له، وأفسَدَ فسادًا عظيمًا.
لهذا؛ فالأمرُ متعلقٌ بمدى حسن التعامل مع هذا المبدأ في الحياة اليومية العامة؛ وهو أنْ نعمل بجدٍّ وإخلاص وإتقان، فما أجمل أن نقوم بتعاملاتنا مع أنفسنا وأسرتنا والآخرين، ونهتم بعملنا ووظيفتنا، بكل أمانةٍ وإتقانٍ ونصحٍ واجتهاد؛ فحينها تَعظم قِيمتُنا في أعين الناس وتزيد همَّتُنا وتزدان إتقانا وإخلاصا، وننالُ ثقةَ الأسرة ومن نتعامل معهم، وتزيد سعادتنا وننال إعجابهم ومحبَّتَهُم، وننال بذلك الشرف الرفيع والأجر الجزيل من عند الله تعالى.
روى الإمام البيهقى عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَزَّ- يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ).
فإتقانُ العملِ علامةٌ على محبَّة الله، وما أعظمها من ثمرةٍ وفائدةٍ للإخلاص!
فلنعلم يقيناً، إن قيمة المرء في إتقانه ما يعمل؛ فالمعلم مثلاً، تعليمُه وتربيتُه للطلاب بإخلاصٍ وصدقٍ وجدّ يزيد من قيمته ويجعله محبوباً وقدوة حسنة، فلو أخلَّ بعمله وقصَّر فيه سقطت قيمتُه ومنزلتُه عند الله وعند طلابه ومن علم به من الناس، وكذلك هو الحال بالنسبة لقيمة المسؤول والموظف وصاحب المهنة في عمله؛ فقيامه في عمله بإخلاصٍ وأمانةٍ وإتْقان دون مُحاباةٍ ورشاوٍ وتمييز هو عين الصواب، وينال رضا الله تعالى أولاً، ويزيد من قيمته وثقة عند المتعاملين معه، فإذا أخلَّ بعمله وقصَّر فيه؛ سقطت قيمتُه ومنزلتُه عند الله وخَلْقه.
كذلك هو الحال بالعالم والكاتب وأصحاب العلم والمعرفة والأدب والتاريخ، وكذلك المشاهير في مجالات مختلفة وغيرهم الكثير؛ فقيمة مكانتهم في نشرهم علمهم وأدبهم بتواضعٍ ورفق ومصداقية وأمانة ونزاهة، وأنْ لا يخافوا في الله لومةَ لائم، فإذا كتموا العلمَ والحقائق خوفًا ومداهنة، أو كانوا سيِّئي الخلُقِ، أو غير مراعين مشاعر الناس؛ سقطت قيمتُهم ومهابتهم وأصبحوا ممقوتين في مجتمعاتهم إلا من سار على شاكلتهم!
ومما لا شك فيه أيضا؛ عندما نفتقد ثقافة تطوير الذات وتطوير الكفاءات القيادية ونجهل كيف يمكن أن نتقن العمل، وعندما نفقد الشعور بالمسؤولية في القيادات الإشرافية في مختلف المجالات؛ فإن هذا الأمر يعدّ أمرا صعبا للغاية، ويؤدي إلى نتائج سلبية تنعكس بشكل مباشر على مستوى الأداء الوظيفي وتطوير الأداء وجودة العمل وتشتت المشاريع بشكل عام دون وجود بيئة ملائمة للاهتمام بالجودة العالية، وربما يطغى الجانب الكمي على مستوى الكفاءة والجودة والإتقان لضمان الديمومة.
وعليه؛ فعندما نتعامل مع الوطن من خلال مبدأ ماذا قدم لي الوطن بدلاً من ماذا قدمت أنا للوطن، ونقابل ما يعطينا الوطن من خيرات بالنكران، وعندما تضعف لدينا ثقافة مراقبة الله فيما نعمل، ولا نهتم بثقافة الإخلاص والإتقان والشعور بالانتماء والأمانة؛ فلا ريب أننا بعيدون كل البعد عن مفهموم هذه الحكمة العظيمة التي تطرقنا إليها.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا ممن يدرك تلك المعاني العظيمة وتسمو به الأمَّة نحو النجاح والفلاح.