مقال : لا تلعثم ولا ارتباك
أحمد بن سالم الفلاحي
تسعى وسائل “التواصل الاجتماعي” إلى زرع كثير من القيم الإيجابية في نفوس مستخدميها، وبدأت هذه القيم تظهر على ممارسات الناس عند التعامل مع هذه الوسائل، وإن غيبت في الوقت نفسه قيما أخرى؛ هي شديدة الحساسية، وتمثل دروعا واقية للمجتمع من كثير من الترديات التي يمكن أن يتعرض لها فتتقوض أركانه الاجتماعية على وجه الخصوص، هذه إشكالية أخرى، ولكن ما أشير اليه هنا هو أن حالات الارتباك التي تحدث عند الاتصال الجسدي المباشر بين مجموعة المتحاورين؛ كثيرا ما أحجمت الكثيرين عن قول ما يودون قوله، وأركنتهم في الظل، في الوقت الذي، ربما كان لصوتهم، أثر كبير، من شأنه أن يبدل قناعات، ويوضح رؤى ظلت مغلقة في صدور اصحابها الى أن غيهم الموت.
“التواصل الاجتماعي” أيقظ الشيطان من قمقمه، كما يقال، وأصبح القزم ماردا يتطاول بكل أسلحته المتاحة؛ في جانبيها الإيجابي والسلبي، ذلك أن مفهوم الرقيب أنزوى عنه بعيدا، ولم يعد جاثما على صدره، أو واقفا على رأسه، لذلك غدت النفوس أكثر اطمئنانا وهي تمارس قناعاتها، بغض النظر إن كانت هذه القناعات التي تظهر أحرفها على صفحات “التواصل الاجتماعي” صادمة للسائد والمعتاد، أو متفقة معه، المهم أن أصحابها أصبحوا خاليي الذهن من شيء اسمه رقيب، وإن أتى الحسيب بعد ذلك، فلربما يكون للمسألة ألف حل كما يرى الآخرون ذلك.
مستوى الارتباك هذا الذي انخفض الى أدنى درجاته المحققة للسير في هذا الاتجاه أو ذاك، ساعد أناس كثيرون على إخراج الحقيقة من مكمنها، وإيضاح الصورة المشوشة، التي كانت سائدة حتى عهد قريب، وأعطى الثقة الكبيرة لأي طرف كان يمارس ضلالاته في الغرف المغلقة أو المظلمة، صحيح أن الجميع يكتب وهو بين جدرانه الأربعة، أي بعيدا عن أعين الناس الراقبة، كما هي عادتها، ولكن في النهاية، أي عمل يرسم على صفحات “التواصل الاجتماعي” يظهر للداني والبعيد، لصالح المجموعة أو ضدها، وبالتالي يعرف من هذا الذي أخرج المارد من قمقمه، ويظل المهم في ذلك أن هذا أو ذاك استطاع أن يفلت من حبل الارتباك، ويصرخ بمليء فمه، أن الحقيقة هنا، وأنني هنا أمام هذا الجمع الحاشد من البشر، ولست فقط أمام جمهور مكون من عشرات من الناس قد لا يصلون إلى المائة في كثير من الأحيان.
هل هي ظاهرة صحية، أو غير صحية، هذه مسألة أخرى، ويتحدد مساقها الإيجابي أو السلبي اعتمادا على مقدار الضرر أو الفائدة عند كل طرف، ولكنها في النهاية استطاعت أن تجد توازنا بين أفراد المجموعات الإنسانية، فمن لم يستطع أن يواجه الحشد من الناس ليقول: ها أنا ذا، يستطيع بحركة التفافية من خلف أحد الجدران المحيطة بذات المسرح والقاعة التي يجتمع فيها نفس الحشد، أن يقف أحدنا ويدلي بخطاب لن تنقصه البلاغة، والفصاحة، وقوة الحجة والدليل في ذات الشأن المطروح للنقاش في الجانب الآخر الذي يفصله جدار المسرح.
حتى عهد قريب، كانت هناك اشادة “بمنصة البوح والصراخ” المخصصة في احدى الحدائق في العاصمة البريطانية في لندن، ولكن حتى هذه المنصة لم يسلم من يمتطيها من المتابعة، وربما الردود المباشرة، وربما الهجوم على من أراد قول شيء، وبمقاربة السلوك ذاته؛ تأتي “التواصل الاجتماعي” لتحقق مناخا ربما يكون أكثر أمانا من تلك.