استوطنتُ غربتي
ريان بنت سالم بن إبراهيم البلوشية
من الصعب جداً أن يجعل الإنسان من الغربة موطناً له. كانت بداية حياتي كطالب مغترب وهو يطارد أحلامه من بلد إلى أخرى، لم يكن من السهل أن أتقبّل وضع المغترب في بداية الأمر؛ ولكن بإصراري وشغفي جعلتُ من هذا الأمر حقيقة.
عندما وطأتْ أقدامي بلاد الغرب دار هناك صراع بيني وبين ذاتي، وتساؤلات كثيرة راودتني، أين؟ وكيف؟ ولماذا جئت إلى هنا؟ كل هذه التساؤلات كانت بمثابة الحاجز أو الغشاء الذي يريد الطالب إزاحته.
فمنذ الوهلة الأولى عند وصولي للمطار التقيتُ بجمعٍ غفير من أبناء بلدي؛ فكان هناك ردود على بعض التساؤلات التي كانت تدور بمخيلتي. نعم، نحن جميعنا هنا من أجل هدف واحد ومن أجل خطوة مختلفة في حياتنا، نحن هنا نحاول نصنع الأمل والمستقبل.
عن أي مستقبل نتحدث؟ عن المستقبل الذي طالما رسمناه منذ طفولتنا حتى وصلنا إلى زهرة شبابنا، ما زلنا نطارد أحلامنا من بلد إلى أخرى.
ليس من السهل أن يعيش الإنسان بعيداً عن وطنه وعائلته وبيته، ولكن عندما يكون هدفك وحلمك نصب عينيك، فإنك تجعل من الصعب سهلاً، وتمكّن جميع الأوضاع لتناسب الواقع الذي تعيشه.
وضعتْ هذه الغربة على عاتقنا الكثير من المسؤوليات التي جعلتنا نستشعر معنى الحياة بشكل أوضح، ونقوم بجميع المهمات والأعمال بمفردنا وليس بمساعدة الآخرين.
كما جعلتنا ندرك جوانب شخصيتنا التي طالما بحثنا عنها ولم نجدها إلا في الغربة بعد أن تعرّفنا على ذواتنا وأنفسنا بشكل مفصّل؛ مما جعلنا نفهم أنفسنا بشكل واضح ونعرف من نحن، وماذا نريد، وما هدفنا في هذه الحياة، فكل هذه الجوانب كانت مخفية.
نعم، قد يكون من الصعب أن تعيش تحت سقفٍ واحد مع زملاء الدراسة من بلدة واحدة، ولكن من مختلف البيئات وبمختلف الشخصيات، ستكون هناك شخصيات مختلفة بأفكار متنوعة، تضارب في الآراء وربما اتفاق في وجهات نظر معينة، وهنا تبرز شخصيتك الحقيقة من خلال قدرتك على التكيف والتعايش مع الشخصيات المختلفة.
من الخطأ أن يحكم الإنسان على الأمور من وجهة نظر الآخرين، فلطالما قالوا بأن الدراسة سهلة ولا تتطلب الكثير من الجهد، ويستطيع أن يحصل الطالب على العلامات بسهولة ويسر، ولكن كل ذلك كان بالعكس تماماً؛ فقد واجهنا الصعوبات في الدراسة وفي الحصول على العلامات، ولكننا نجاهد أنفسنا لنفعل ما بوسعنا حتى نصل إلى مبتغانا بدرجة من الرضى.
ثمّة أحداث فاصلة تغيّرنا من الداخل، تُعيد ترتيب علاقتنا بالحياة بشكل أوضح وأدقّ، كما أنها تعلّمك الامتنان لأبسط التفاصيل التي لم تكن تستشعرها في حالة وجودك في وطنك الأم، لكن في الغربة هي أشياء صغيرة وتفاصيل بسيطة جعلت من الحياة مثيرة جداً، كما تجعل الذكريات باقية وخالدة في ذهن المغترب، بالإضافة إلى أنها تساهم في إزالة الهوامش من الحياة وجعْلها أشياء ثانوية بعد أن كانت من الأساسيات.
هنا يمكننا أن نقول: لم تكن غربة، بل هي الملاذ الذي صنعتْ منّي شخصاً قائماً بذاته، صقلتْ شخصيتي وبرزت فيها الجوانب المخفيّة التي لم أكن أعرفها، وأصبحتْ غربتي موطناً أستلذّ بمحطات الحياة فيه، فجعلتُ من كل محطة ذكرى جميلة رسمتُها في مخيّلتي لأتذكر بها سنوات الغربة وموطن الذكريات.