سلطنة عُمان تحتفل بالعيد الوطني الرابع والخمسين المجيد المجيد
Adsense
مقالات صحفية

إرادة الخير، تطفئ نار الحسد

إسماعيل بن مسعود بن غفيل الراشدي
@ismail_alrashdi1979

النار بطبيعتها تأكل كل شيء، وهي مخلوق من مخلوقات الله عز وجل، وقد خُلقت لهذا الغرض، وعلى الرغم من طبيعتها التي تحرق كل ما يقابلها، إلا أنها كانت مدخلاً للحضارة الإنسانية، وتُعدّ من أكبر اكتشافات العصر الحجريّ القديم، فبِها تعددت الصناعات والأدوات، فالضياء شَقّ الظلام، والدفء أبعد البرد، والحرارة طهت الطعام، وكل ذلك كفل تأمين وقتٍ آمنٍ ومضيء، ولو لمدة من الزمن.
وبما أن الإنسان ابن الأرض؛ وخُلِقَ من تربتها، فإن تأثُّرنا بالنار أبعد من استفادتنا مما تقدمه لنا من خدمات فحسب، فقد تعدّى ذلك لنأخذ من طباعها، ونتغذّى من لهيب سلوكها الطبيعي.

خلق الله أبانا آدم -عليه السلام- في الجنة كأول بذرة للإنسانية، وقد خلق الله قبله إبليس المخلوق من نار، فرفض إبليس السجود لآدم كأول بذرة للحسد في أول ظهور لآدم في الجنة، ومن هنا بدأت نشأة هذه الصفة النارية الذميمة، والتي حوّلت مجرى الحياة للأبد.
بعد خلق أبينا آدم -عليه السلام- خُلِقت أمّنا حوّاء، وأول من قابلهما كان إبليس الذي توعّد أبناء جنس آدم بأشد الوعيد بعد تخليده في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، وتخليده في جهنم، وهنا أُزيح الستار عن النار التي تلهب قلبه كثاني بذرة للحسد، ليوَسوس لهما ليدّلهما، ومن ثمّ يغريهما للأكل من الشجرة التي نهاهما ربهما عنها حسداً من عند نفس إبليس، والنتيجة نزولهما للأرض كعقاب بعد إثم، ومغفرة بعد توبة.

من هنا بدأت وسوَسة الشيطان التي تحفّز داعي الحسد لدى البشر؛ ليستخدمها كسلاح فتّاك يدمّر كل ما يقابلها من طبيعة ترابية نقية فطرها الله فينا بني البشر، فقتل قابيل هابيل، وبدأت سلسلة الحسد تتجدد وتتشكل بأشكال وصور قد تتعدد غاياتها وألوانها؛ لكنها ذات مصدر ومنبع واحد.

الإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه، وقد جُبِل للعيش بين مجموعات من البشر، والله -عز وجل- جعل بيننا ذلك التمايز الذي يساعد على نموّ عجلة الحياة، فأنماط تفكيرنا مختلفة، وطرائق تحليلنا للأمور متباينة، وهكذا الأمور في كل النواحي البيولوجية والفسيولوجية والنفسية.. إلخ. ومن هذا المنطلق فقد وُجِدَت بيننا فئات تحب الخير للجميع، وفئات أخرى تتمنى زوال هذه النِّعَم عن البعض، وقد أُطلِق على هذه الحالة الثانية بالحسد.

يكاد لا يخلو أيّ بشر -نسبياً- من الحسد، وقد قسّمها أبو عبدالله مصطفى العدوي في كتابه (فقه الحسد) إلى خمس مراتب مختلفة:
* منهم من يحب أن تزول النعمة عن غيرة دون تمني الحصول عليها، وهو حسد على أمر محقق، وهو أخطرها على الإطلاق.
* ومنهم من يتمنى زوال النعمة عن المحسود على أن تتحول إليه، وهو أخف من الأول نوعاً ما.
* ومنهم من يتمنى عدم استصحاب النعمة، وذلك بأن يبقى المحسود على حالة الجهل والفقر والشتات، وأن لا يتغير ذلك، وهو حسد على أمر مُقَدَّر، وهو أيضاً مذموم عند الله والناس.
* ومنهم من لا يتمنى زوال النعمة، ولكنه يتمناها لنفسه أيضاً، فإن لم يحصل عليها تمنى زوالها عن غيره، ليتساوى مع المحسود فلا يرتفع عنه قيد أنمله.
* ومنهم من يتمنى الشيء لنفسه مع عدم زواله عن الآخرين، ويطلق على ذلك الغبطة، وهي نوع جائز على ضوء الآية القرآنية {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين/26)
الحسد في الأمثلة الأربعة السابقة هو حسد شعوري بغيض، وآفة قلبية تحرق الإنسان من داخله، وتدخله في دوامة الاعتراض على أقدار الله، وفيه تشبُّه بيّن بالكفّار، وتبعية لحلف الشيطان لتحقيق مآربه ومخططاته {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ… } النساء الآية 54. وقد يتطور هذا الشعور ليرتبط بالإرادة المتمثلة بالسلوكيات والأفعال التي تؤدي لمنع وصول الخير لمستحقه، أو تثبيط كل الطرائق المؤدية لذلك. {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (الفلق/5).

إذا ما ابتليَت المجتمعات والأمم بهذه الصفة فإنها بالتأكيد تكبّل صفات النجاح، وتشوّه المعاني الجميلة للأخذ باليد، وحب الخير للأخرين، وتكبح بذل الوقت للتميّز والإبداع، فالحسد كصفة مدعاة للعداوة والبغضاء وهو مؤشر لضعف الإيمان، وهو كشعور وإرادة مؤذٍ جداً للشخص نفسه، فهو يشغل الإنسان عن مواهبه ومميزاته التي وهبها الله له؛ ليلتفت فقط للشخص الذي يراقبه ويتتبعه، وقد يؤدي أيضاً لنشر الإشاعات المغرضة بهدف التقليل من شأن ذلك الإنسان، والأدهى من ذلك كراهية المجتمع لهذه الفئة، فمتى ما تكشّفت الأقنعة واتّضحت الرؤية، أصبح هذا الحاسد منبوذاً وحيداً يبحث عن قرين يشبهه، وقال الإمام الشافعي في ذلك :

كلُّ العداوةِ قد تُرْجى مَوَدَّتُهَا
إلاَّ عداوةَ من عَادَاكَ عن حَسَدِ

عرَّف علم الطاقة الحسد أنه: طاقة سلبية ضعيفة تحيط بالإنسان كالهالة، ما تلبث أن تخترق الطاقة الأقل منها، والجميل في الأمر أنه بالإمكان عكس هذه الطاقة لتغدو إيجابية، ويبدأ ذلك بالاعتراف الذاتيّ بهذه الصفة، وتأطيرها للمضيّ قُدماً في طريق اجتثاثها، ويتصدر ذلك إرادة التغيير ومكاشفة النفس وتصفيتها من الأحقاد والغلّ، ومن ثَمّ التوكّل على الله، والتعوّذ من الشيطان، والاخلاص لله، وتجديد التوبة، وأخيراً الانشغال بالنفس، وتطويرها وعدم مدّ العين لما في يد الآخرين، {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} (طه /131).

وكما أنني شبهت طبيعة الحسد بالنار، وأن أصلها كان إبليس، عليه أختم بكلمات الشاعر “عبد الله ابن المعتز”:
اصْبر على كَيدِ الحَسُودِ فإنَّ صبركَ قاتلُه
كالنَّارِ تأكلُ بعضَها
إن لم تجد ما تأكلُه.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights