رمضانيات اليوم الخامس والعشرون: التواضع رفعة المؤمن
خلفان بن ناصر الرواحي
الحمد لله الذي جعل التواضع خصلة من خصال الإيمان لعباده، القائل سبحانه في كتابه العزيز: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}-[الفرقان:63]. والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،،،
فيا أيها المؤمنون الأتقياء، اعلموا أنّ التواضع هو من شيم أهل الإيمان وهو خلقٌ حميدٌ، وخصلةٌ كريمةٌ ينال بها العبد بعد رضا الله رضا الناس عنه؛ فالمتواضع هو مدعاة لتآلف القلوب ويحبه الناس ويألفونه ويطمئنون إليه، وحقيقته الجليلة تكون بتركه التعالي والتكبر على عباد الله، والمؤمن الحق هو من يحب لأخيه ما يحبه ويرضاه لنفسه، وينظر إليهم نظرة صادقة ويكن لهم الاحترام والتقدير، وإن تفاوتت المنازل بينهم، فهو ينظر إليهم مهما كانت الفوارق في الجاه أو في المنزلة أو في المكانة الاجتماعية، فكل هذه الأمور لا تُذهب التواضع ولا تقلل من مكانته وقيمته؛ بل هو خلقٌ عظيم يتأصل في النفوس الطاهرة.
واعلموا أحبتي في الله، أنّ التواضع هو خلق نبيل ينال به العبد محبة الله، ثم كسب القلوب وسموها، وقد أمر الله عباده بالتواضع في كتابه، وأمر به نبيه -صلى الله عليه وسلم- بذلك؛ مخاطباً له بقوله – عزّ وجلّ- في كتابه العزيز: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}-[الحجر:88]، وقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}- [الشعراء:215]، وقال في موضع آخر لصفات عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}-[الفرقان:63]، وقال سبحانه: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً(37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً(38)}-[الإسراء].
ويقول حبيبنا وقدوتنا -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)- رواه مسلم، وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)- رواه مسلم.
واعلموا رحمكم الله، أيتها الأحبة في الله، إنَّ للتواضع فوائده العظيمة، فمن فوائده الجليلة وأرفعها هي محبة الله لذلك المتواضع، يقول الله -عزّ وجلّ- في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه(54)}. وقال بعض أهل العلم إن الله لم يمدح الذّل إلا في موضعين؛ ذل المسلم مع إخوانه المؤمنين بأَلَّا يتعالى ولا يتعاظم عليهم، وذل الأولاد مع الأبوين، والدليل قوله تعالى ما جاء في هذه الآية، وقوله أيضاً في سورة الإسراء: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً(24)}.
ومن فوائد التواضع أيضاً أحبتي في الله، أنه رفعةٌ للمؤمن، وأن هذا التواضع من أسباب دخول الجنة، يقول تعالى في سورة القصص: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)}. ومنها ما رواه البخاري عن حارثة بن وهب رضي الله عنه أنَّه سمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول:( ألا أخبركم بأهل الجنَّة؟ قالوا: بلى. قال -صلى الله عليه وسلم-: كلُّ ضعيف متضعِّف، لو أقسم على الله لأبرَّه).
فيا أيها الأحبة الكرام، إن التواضع هو خلق أنبياء الله ورسله، كما بين الله ذلك في كتابه العزيز في عدة مواضع، ومنها موقف سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، حينما ذكر الله عنه موقفه من الفتاتين اللتين أرادتا السقيا فعجزتا، فقال سبحانه في سورة القصص: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ(23) فَسَقَى لَهُمَا…(24)}، فسقى لهما وأعانهما على ذلك فارتاحتا من انتظار من هو أقوى منهن.
ولنا في رسول الأمة -عليه الصلاة والسلام- القدوة الحسنة في التواضع، ونذكر هنا بعضا من تلك المواقف؛ فمن تواضعه -عليه الصلاة والسّلام- وقوفه مع امرأة في عقلها شيء، فتعترض طريقه لحاجة لها؛ فعن أنس رضي الله عنه، قال: (أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت يا رسول الله: إن لي إليك حاجة فقال-صلى الله عليه وسلم-: “يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضى لك حاجتك”. فخلا معها فى بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها)-رواه مسلم. ومن تواضعه -صلى الله عليه وسلم- أيضاً، أنَّه إذا مرَّ على الصِّبيان، سلَّم عليهم؛ فعن أنس رضي الله عنه، قال: (أنَّه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم، وقال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يفعله)- متفق عليه. ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام أيضاً، أنه في بيته يكون في مهنة أهله؛ فعن الأسود قال: (سألت عائشة: ما كان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مِهْنَةِ أهله – تعني خدمة أهله -، فإذا حضرت الصَّلاة خرج إلى الصَّلاة)- رواه البخاري.
فيا أحبتي المؤمنين الأتقياء، لنتذكَّرْ جميعا عظمة الله، وكمال أسماءه وصفاته، وكمال علمه واطلاعه على قلوبنا، ومراقبته قولنا وعملنا، ونستشعر كمال عظمته وكبرياءه؛فتواضعنا له سبحانه لهو زيادة في مقامنا وكرامتنا وعزتنا، ولنعلم أن أثرنا الطيب هو الذي يبقى؛ فكلّنا راحلون عن الدنيا الفانية، ومهما طالت أعمارنا لا بد من مفارقتها؛ ولا بد من تواضُعٍ لله وحده، وعمل صالح يقرّبنا إليه؛ ولنذكِّر أنفسنا بسيرة سيد الخلق أجمعين محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الخلق وأفضلهم، ولِيَكُنْ نِبراساً وقدوة حسنة لنا في القول والعمل.
بارك الله لنا ولكم في أعمارنا وأعمالنا، وهدانا جميعا إلى سواء السبيل، ونفعنا وإياكم بما يقرّبنا إلى الله تعالى؛ لننال بعد رضا الله رضا الناس ومحبتهم، إنه سبحانه سميع مجيب. آمين