ذاكرة متشظية
مزنة بنت سعيد البلوشية
مالذي صنعَته بك الأيام أيها القادم من أقصى البلاد؟ اشتعل الرأس شيباً وانحنى ظهرك وغارت عيناك في مجراهما؛ وبهت صوتك، فأصبح جسدك نحيلاً.
تراقب المارّة كل مساء من مكانك المعتاد؛ وكأنك في انتظار شيء ما قادم، يطفىء لهيب الذكريات.
فلم يتمكن أحدٌ من إشباع فضوله في الكشف عن سرك المخبوء في صدرك؛ فكل محاولاتهم باءت بالفشل، وبقيت أنت شامخاً كالطود، وكتوماً وغامضاً.
حينما يستوقفك شخص ما ويسألك عن مكان ما، فإنك تدله عليه بإشارة من إصبعك، وبضع كلمات تخرج كالهمهمة.
يغيب الشخص وسط الجموع، ويختفي عن ناظريك، وتبقى في مكانك وتنظر في الفراغ. طيوف الراحلين لا تفارق مخيلتك، تحاول أن تستعيد الذكريات، تقلّب بين صفحات الماضي لملامح الوجوة؛ولكنك لا تفلح كثيراً بالاحتفاظ بالصور، تتفض رأسك محاولاً أن تسيطر على توازنك، وتمضي قُدماً في حال سبيلك.
ترتشف قهوتك ببطء شديد، فلا يتبقى من الفنجان سوى الحثالة.
ملامح الأشخاص الذين صادقتهم لا تفارق مخيلتك.
تقودك مخيلتك إلى أجواء قريتك البعيدة التي هجرتها منذ زمن طويل، حيث كنت شاباً يافعاً يركض الدم في عروقك.
إلى أيّ إقليم تجرجر قدميك المتعبتين أيها الكهل المنسيّ في هذه الزاوية من العالم؟ جميع الصور مبعثرة وضبابية، والرأس مثقل بالأوهام؛حفرتها الأيام بإزميل الوقت والانتظار، انتظار شيء ما هجرته، تومض في رأسك ملامح العابرين والراحلين، تحاول أن تلملم شظايا الصور، مشيتهم وملامحهم وضحكاتهم، فتنطلق حينها كالمعتوه ناحية المكان الذي اعتدتّ عليه، فتتيه وسط الزحام.