في الذّاكرة، العمّ (حمد المحروقي)
فؤاد آلبوسعيدي
في الذّاكرة، هي نفس الأحاسيس الحزينة، ونفس المشاعر المُؤلمة التي تتكرّر كلّما فقدنا أحداً من الأحباب، أو شخصاً من المعارف؛ تعيدنا الأحداث إلى آلامنا وآهاتنا، وإلى دموع عيوننا، وتأخذنا إلى عتبات الفراق الأبديّ، وإلى النفوس القلقة والمرهقة والمكتئبة، لأننا ندرك بأنّ هؤلاء الرّاحلون لن يعودوا إلينا أبداً، ولن نراهم بيننا في هذه الحياة التي لن تكون يوماً خالدة لنا ولا لغيرنا من البشر؛ أحياناً تخذلنا تعابيرنا وأحاسيسنا التي تسكن في داخلنا، فتجعلنا لا نجد السطور المناسبة ولا الكلمات الملائمة التي تستطيع أن تنقل للعالم ما يسكن أعماق أفكارنا المُكدّرة بالأحزان، ولا يمكنها أيضاً أن تساعد في تخفيف حجم تلك الأحمال التي تزيد من المَواجع التي باتت تضيّق علينا تجاويف صدورنا وغرف أفئدتنا؛ أحياناً في مثل تلك اللّحظات التي نكون فيها بلا حولٍ يحمي عواطفنا المقهورة، ولا نملك قوة ترفع عالياً هِممنا الضعيفة أمام قُدرةِ ومشيئة وحِكمة الخالق، قد لا نكتفي سوى بالدّموع الصامتة والمسجونة التي تستوطن أعيننا الحزينة؛ تلك دموعٌ أصبحت تعكس الكثير من الذكريات التي جمعتنا مع الرّاحلين عنّا، وذاك هو ما عايشناه وما ملك مشاعرنا لحظة رحيل فقيدنا العمّ (حمد المحروقي) رحمه الله وغفر له.
في الذّاكرة، ذلك الصدى الصّاخب والمتردّد الذي أتى إلى مسامعي، الذي كان كفيلاً بأن يجلب حول كياني الذي كان قلقاً القشعريرة حتى قبل وصولي إلى المحتشدين عند مدخل -جناح الرّاحلين- العناية الفائقة؛ الأصوات كانت كثيرة ومتداخلة عند بداية الممرّ وخارجه، حتى أنّ تلك الأصوات ربّما كادت أن تكون واصلة بصداها الصارخ إلى بقية أجنحة وأقسام وممرّات المستشفى الذي شَهِدنا فيه كذلك رحيل الكثير من الأحبة الذين كانت وفاتهم فاجعة ومفاجئة مثلما كذلك كانت غرابة حالاتهم المرضية سريعة في تحولّها إلى حالاتٍ تستلزم العناية الفائقة، بل وتحوّلها إلى حالات مَرَضية حرجة في تطورها السلبيّ والمزعج، والذي دوماً كان ينتج بعد ذلك إلى غيابهم جميعاً عن الوعي الكلّيّ، ثم إنتهاءً بعدها بالوصول إلى تلك الأخبار التي لا يريد أحدٌ أن يسمعها أبداً. صدمةٌ تكاد تعصر الفؤاد وأنا أسمع أصواتاً مؤلمة كانت تقول وتحادثني (رحل أبوي، خلاص راح أبوي، مات أبوي….) وبين نبرة صوتٍ هذا، ووقع صوت ذاك الذي لم يكن بعيداً، كان سماع النحيب المتواصل، وكذلك دون قصدٍ مشاهدة دموع من حضر في تلك اللحظات من النساء هو الأكثر إيلاماً والأشدّ بعثاً للقشعريرة في قلوبنا؛ بين الصرخات والنحيب والدموع كانت الأفكار شبه ضائعة، فيكاد البعض أن يسلك سلوك الناحبين، أو يكون مع أولئك الذين تذرف دموعهم بصمت، وكأن الشخص منهم قد عقد العزم على أن يتّصف بصفة (رابط الجأش) فلقد انتبه بأنّه يجب أن يكون شديداً ومتمالكاً نفسه ومشاعره الحزينة عند الشدائد والمصائب.
بالفعل، فقد كان على البعض أن يُحكم السّيطرة جيّداً على مشاعره وأحاسيسه وسلوكياته في تلك اللّحظات، فهنالك وبسبب هولِ الفاجعة من سيحتاج إليه لكي يواسيه في تلك الدقائق والساعات الحزينة؛ هنالك وبسبب صدمة الفقدِ من سيحتاج إليه لكي يكون كتفاً وسنداً يداري عن الآخرين مشاهدة ذرف الدموع وربما إنهمارها من الأعين؛ هنالك وهو في حالة الانهيار العاطفي من سيحتاج إلى شخصٍ ذي عقلٍ سديدٍ ولسانٍ حكيمٍ يذكّره بأنّ الله هو الخالق الباقي ونحن البشر جميعاً سنعبر في ذات ونفس الطريق عندما يأتي الأجل المكتوب؛ نعم، فهنالك في تلك اللّحظات من سيحتاج إلى أن يُقال له “اذكروا فقيدكم بدعوة في هذه اللّحظات، واطلبوا له الرّحمة والمغفر”.
إنّ الفاجعة والرّحيل مؤلم، ولكن نقول: عزاؤنا أنك قد تركت لنا ذكريات جميلة لا تُنسى، وسيرة طيبة سيظل يتذكرها جميع أحبابك ومعارفك؛ لقد رحلت بذكرى معروفة بالوفاء وبالإخلاص وبحُسن القربى والعِشرة لمن عرفك وعاشرك، فرحمك الله وغفر لك وأحسن لك الخاتمة يا (عمّ حمد المحروقي).
في الذاكرة، آخر اللّحظات التي جمعتني بالفقيد الرّاحل (العم حمد المحروقي) كان ذلك قبل أسبوعين من وعكته المرضية المفاجئة التي سريعاً ما تحوّلت إلى غيابٍ عن الوعي؛ كان ذلك في جلسة قهوةٍ مسائية عابرة في السّاحة الخارجية لمنزل أحد أبنائه؛ بعض الأمور لا ينساها المرء وخصوصاً إن كانت أموراً يمكن وصفها بأنها هي الخصال والصفات التي يتصف بها أحدهم؛ قد يموت المرء ولكن حتماً ستبقى صفاته في ذاكرة المحيطين به؛ لقد جاء الأجل المكتوب لوفاة (العمّ حمد المحروقي) ولكن رغم مرارة الفقد الشديدة والرّحيل الأبدي فستبقى معنا في الذاكرة إحدى صفاته الحسنة التي عظّمتها وأحببتها فيه كثيراً؛ إنّ هذا الفقيد على الرغم من سنين عمره الكثيرة وعلى الرّغم كذلك من حالته ووضعه المرضي والصّحي الذي كان يعانيه منذ أعوامٍ مضت إلّا أنّه كان دوماً متواضعاً يرفض الجلوس، بل وكان يستنكر أن يلازم مقعده عند وجود ضيفٍ يستقبله أو زائرٍ آخر يودّعه، وذلك على عكس الكثير من كبار السّن الواصلين إلى نفس عقود عمره الكثيرة.
لقد رحل (العمّ حمد المحروقي) عن الدنيا وهو زائدٌ فيها ولم يكن زيادةً عليها؛ لقد رحل عن هذه الحياة وقد تركها أحسن مما وجدها؛ و ما علينا سوى أنْ نعلم بأنّ للموت كرامات ورحمات أيها الباقون.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.