مقال : أبناؤنا .. كيف أحوالهم؟
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
تطرح بشكل مستمر كثير من الصور المعبرة عن سلوكيات الأبناء، سواء تلك المتعلقة بعلاقاتهم بالأشياء القريبة منهم، أي في محيط الأسرة الواحدة، أو تلك التي يتعامل بها مع الآخرين من حولهم في مختلف الأعمار، تطرح هذه الصور لسلبيتها في التناول، وفي نزقيتها في الممارسة والتأثير، يرى البعض أنها بناءات خلقية مربوطة بظروف العصر الذي تعيشه، ويرى البعض الآخر أن الأجيال المخضرمة لم تؤد دورها بالصورة المطلوبة في ترسيخ قيم معرفتها في نفوس هذه الأجيال، بينما يرى ثالث أن الحقيقة أكبر من ذلك حيث تذهب إلى عوامل التأثير الضاغطة من هنا ومن هناك، وفي كل هذه الأحوال تبقى الصورة مرتبكة، ومتنازع عليها من كلا الطرفين، وبديهيا أن ينتصر كل طرف على قناعاته التي يؤمن بها، وينتصر كل طرف على مستوى المصلحة التي تعود اليه من مختلف هذه السلوكيات.
فاذا نظرنا الى جيل “المؤسسين”، ان تجوز التسمية، فهم يهمهم كثيرا أن يكون ابناؤهم على درجة كبيرة من التمسك بالقيم، فهم يحملون اسماءهم، ومنابع أسرهم، ولذلك يشتد الحوار سخونة عندما يشذ هذا أو ذاك عن هذه القيم، ويعدوا ذلك ضربة قاسية للأسرة، ويتحدوا في ضرورة إعادة الشارد عن القطيع إلى قطيعه، وإن كانت هذه الصورة برمتها بدأت في التراجع عما هو معهود من قبل، وهذا الموقف المتراجع يشكل في حد ذاته مؤشرا مهما لمدى تنازل “المؤسسين” عن بعض قناعاتهم، أو أن جل هؤلاء قد رحلوا عن الحياة، ولم يبق منهم إلا القليل الذين لم يعودون مؤثرين، وتأتي الفئة الفاصلة بين الطرفين لتكون أقل تشددا من سابقيها، حيث تؤمن بكلا وجهتي النظر على ما يبدو.
أما إذا نظرنا إلى الجيل الحالي، المدافع عن عصره وقناعاته دفاع المستميت، فهو يتحرر من كل هذه الالتزامات، ولا يرى فيها إلا تحجيما لدوره، ولقناعاته، ولا يرى في كل ما ينادى به من قيم وأسس مجتمعية إلا “سقطا من المتاع” لا يقدم ولا يؤخر الا بمستوى قناعات المؤمنين به فقط، أما بخلاف ذلك فهو لا يعدو عن كونه تنظيرا، لا يعكس واقعا حقيقيا، فوق أن لكل جيل أدواته التي يؤمن بها ويرى ضرورة وجودها لاستمرار معززات حياته اليومية، فاللباس القديم “التقليدي”، على سبيل المثال، كثيرا من أبناء هذا الجيل يرون أنه مكبلا لحرية الحركة، ولذلك هم أقرب الى اللباس الحديث منه الى القديم، إلا في المواقف التي تستدعي ذلك فقط، وكذلك عند النظر الى الوجبات الغذائية، فحيث تنتشر محلات بيع الوجبات السريعة يكون هذا الجيل، واذا حدثته عن الطبخات التقليدية يرى فيها الكثير من العناء لتقبلها، وإن أقبل إليها فلن يعد ذلك إلا مجاملة لك أنت كأب، أو أم، وقس على ذلك أمثلة كثيرة.
لن نتجاوز المعنى كثيرا إن قلنا أن أطفالنا مرفهون الى حد البذخ، فكل شيء جاهز ومهيأ، ولذلك تأتي تصرفاتهم غبية تجاه كل ما حولهم والنظافة إحداها، حيث لعبت ثقافة وجود خدم في المنزل وفي المدرسة، دورا محوريا في تغييب المسؤولية الذاتية لديهم، وتضخم هذا الشعور في نفوسهم متجاوزا بذلك فترات السن التي مروا بها، حيث لا تزال تصاحبهم “عدم المبالاة” حتى اليوم وهم أرباب اسر، ولا تزال هذه التصرفات الغبية ترافقهم، ويكفي ما نشاهده في الاماكن العامة كالحدائق وغيرها من دليل.
أتصور أنه لا يجب أن نحمل مفهوم “القدوة” أكثر مما تحتمل، لأن في ذلك تحميل المعاني أكثر مما تحتمل، فالقدوة موجودة، إلى حد كبير، والنصيحة أيضا تأخذ مكانها في نفس السياق، ولكن الحاصل هو بناءات عضوية جديدة، تعززها فطرة عمق تاثيرها أكبر من قدرة “القدوة”.