الذكريات الطيبة لا تغيب
درويش بن سالم الكيومي
يقال “الصدفة هي خير من ألف ميعاد”، فتخيل عندما تجمعك بأحد الأصدقاء أو المعارف بعد غياب دام ثلاثون سنة، سواء كان من بلدك أو كان وافداً، وقد انقطع بينكما اللقاء والتواصل، ولكن كما يقال؛ “مصير الحي يلتقي وفي يوم من الأيام تأتي به الأقدار الطيبة”. ذلك الوافد الذي لم تتغير به الملامح ولا الهيئة منذ ذلك الزمن، وقد برمج في ملف الذكريات نسخة مخزنة ولكنها تفتقد التجديد، وبرغم السنوات لم تتحدث، وتأتي اللحظة التي يستعيد بها القلب والعين ملف الحفظ والحدث وتعود كافة المعلومات المحفوظة عن الشخصية المفقودة، فمتى ما وصلت الصدفة المفاجئة بقدرة الله في مكان ما ربما في طريق أو سوق أو حديقة عامة أو سفر في تلك الثواني تسترجع أجمل ما قد حفظ عن ظهر قلب منذ انقطاع دام سنوات طويلة، ويدور في مخيلة السائل ردة فعل للتأكد هل هو مخطئ؟! فيسأل حينها “هل أنت تعرفني من قبل، ويأتي الاختصار لا؛ ولكن أشبه عليك”.
فمثل هذه الصدف لا بد بأن نعد لها خاطرة ظريفة تبقى مدونة عبر صحيفة القراء، فقد كان لي موقف مماثل لا ينسي أبدا من خلال فترة العمل، والذي حدث في ولاية جميلة شعارها “المحبرة والقلم”، وكان معي أحد الزملاء، وقد توقفنا بالقرب من محل تجاري يبيع المواد الغذائية، وكنت معه في حوار “من منا ينزل للمحل، وما هي الأغراض التي يمكن أن نأخذها معنا للرحلة في وقت الظهيرة”، ولا زلنا في حوارنا -أنا وزميلي- بالمركبة، وفجأة تأتي شاحنة ذات الأربع أطنان، وبعد ما استقر السائق أمام المحل التجاري، نزل المرافق، وكان عامل وافد عليه ملبس أنيق متناسق اللون، ويحمل سجل الفواتير والآلة الحاسبة والأقلام، وبعد ما رأيت ذلك الوافد وهو بنفس الهيئة لم يتغير منه شيء! فأخبرت زميلي “بأن هذا العامل أعرفه منذ كنت أدرس بالمرحلة الإبتدائية بمدرسة جميل بن خميس السعدي بالبداية، ومنذ أن تركت الدراسة والتحقت بالعمل فترة طويلة تقارب الثلاثين سنة لم أره إطلاقا”، وللأسف زميلي لم يصدق ما أقوله عن ذلك الوافد وعن الفترة الزمنية التي مضت من عمر النهضة المباركة.
فاتفقت بأن أخمن وزميلي يعارض ذلك بأن أستوقف العامل وهو بتلك الأناقة وأساله ونحن في ولاية بعيدة، فناديت على الوافد، وبداية سلمت عليه، وسألته “من أين قادم، وطبيعة عملك، وعن موقع الشركة”، وهكذا كان بداية الحديث حتى اطمأنّ، ومن بعد سألته “أنت لم تعمل من قبل في مكان آخر غير محافظة مسقط؟”، رغم أنني كنت متأكدا منه 100%، فرد علي بأنه لم يعمل في أي مكان آخر غير مسقط منذ أن أتى من بلده جمهورية الهند، وطبيعة عمله توصيل المواد الغذائية إلى المحلات التجارية، وأنكر بأنه يعرفني، ولم يرني في حياته! فلم يكن أمامي إلا أن أوجه له السؤال الثقيل عن كفيله السابق، وهو أحد المشايخ رحمة الله عليه( أبو النوبي)، وطبيعة عمله كان في المطعم، وهو يبيع لنا وجبة الهريس، ونحن الطلبة من يشترى منه في وقت الظهيرة، وقيمة الصحن كان 50 بيسة، وكنت في المرحلة الإبتدائية. ولم يكن من ذلك الوافد إلا أن يسلم على مرة أخرى بالأحضان- وفي نفسه سؤال يقول “أنت من أين طلعت؟!”- وقال بكل صدق “فعلا كنت أعمل في منطقة البداية مع كفيلي، ولكن سافرت ورجعت مرة ثانية إلى عُمان أعمل في هذه الشركة”، وهو يتحدث العربية بطلاقة، وبسخرية قال “كنت لا أريد أن أخبرك، يمكن أنك ما تعرفني بعد هذه السنوات، لكن أنت فاجأتني بأنك تتذكر عملي والكفيل والمكان بعد زمن طويل حوالي 30 سنة!”، وطبعا عرف إسم المدرسة الشهيرة.
فهكذا هي الصدف الطيبة عندما ترتسم الصورة في مخيلتك؛ فأنت تتحدى كل الظروف، سوءا كان شخص أو مناسبة أو موقف مر عليك. طبعاً لا يمكن أن تنساه بهذه السهولة، ولكن في زمننا الماضي القلوب تخزن كل الذكريات والمشاعر وتحفظ المواقف، وتسعد باللحظات الخالدة، وتستبشر بأخبار الوطن والمجتمع، ولا شيء يشغل القلب مثل ما نحن عليه الآن من زمن السرعة والتكنلوجيا والبرمجيات والعولمة وطرق التواصل الاجتماعي وغيرها من المواقع، وأصبح قلب الإنسان لا يملك وقته بسبب عمله اليومي المتواصل في خدمة هذا الوطن الغالي علينا.