سماء صافية ..
بلقيس البوسعيدية
كلهم ينتظرون الشتاء ليكتبوا قصائد في الشوق والحنين، ليرتدوا معاطف دافئة؛ فيجلسون قرب المدافئ آمنين مطمئنين، متطلعين من خلال النوافذ إلى انتفاضة الأشجار وارتعاشات الأزهار حين يداعبها المطر، إلا الغزاويين فالشتاء أصبح بالنسبة لهم كفاح محموم من أجل الحصول على مصدر أمن للدفء، فكل ومضة برق ودوي رعد في سمائهم؛ يؤذيهم ويبث الرعب في قلوب صغارهم، وكل قطرة مطر تهطل فوق رؤوس خيامهم؛ تهزهم من الداخل ولا تثمر في قلوبهم سوى المزيد من البؤس والخوف الذي يقض مضاجعهم ويزيد من وحشة المكان وبرد الزمان، وأي مضاجع هي تلك التي ما عدت تتسع لقلوبهم المثقلة بالألم والخيبات، بل وأي حياة هي تلك التي يعيشونها هنالك بين قصف ودمار وصواريخ وركام ترقد تحت وطأته أرواح المساكين والأبرياء، فلا حفنة ماء تسد رمق الحياة فيهم، ولا كسرة خبز ولا حتى دواء يخلصهم من لسعات الوجع التي تنهش في عظامهم الباردة.
جفت حناجرهم، تحجرت الدموع في أعينهم، فما عاد الصراخ يجدي لتحرير قلوبهم من مقلصة الوجع، ولا الدموع تكفي لغسل حزن أرواحهم على حياتهم البائسة التي يرونها تضيع من بين أيديهم.
لا شيء في غزة يشبه الحياة: غيوم سوداء تسبح في فضاء ضيق ومحدود، دماء زكية لجثث باردة تفوح من مسامها رائحة الياسمين، رصاص طائش يركض وراء قلب بريء ليثقبه، هواء ملوث بالفسفور الأبيض، جدران تلطخها صرخات الأبرياء، وشوارع تضج ببكاء الأيتام وعويل الحداد على أرواح بريئة توفيت إثر قصف مدمر عنيف.
تقلصت آمالهم وغفت أحلامهم في قلوبهم أبدا. بيوتهم، ذكريات طفولتهم، أحلامهم وكل ما صنعته أيديهم لسنوات طوال بات هشيما تذره الرياح نحو أحضان الغياب.
إنهم يموتون والعالم كالدمى الخشبية يقف مكتوف الأيدي، منزوع الروح بلا دم ولا إحساس، أعمى لا يبصر جروحهم ولا يسمع اصطفاق أضلاعها وأنين صغارهم واستغاثات رجالهم.
ما عادوا يطمحون لعيش حياة مرفهة، لا يريدون بيوت بسقوف عالية، ولا مدارس بمساحات شاسعة، ولا حدائق غناء ترويها ضحكات الأطفال. لا يريدون وسائد محشوة بريش النعام، ولا ثياب مطرزة بالورود ولا تذاكر سفر ولا تأشيرات عبور، ما يريدونه هو نهاية منصفة تليق بقلوبهم المثقوبة، مساحة أمنه تمكنهم من التعايش مع عذابات الفقد ولوعة الحرمان. يريدون للهلع الهائل فيهم أن يموت، أن ينتهي الألم العظيم من قلوبهم، يريدون حياة بسيطة وهانئة، بسماء صافية لا تلوثها طائرات حربية، ولا قذائف صاروخية، ولا دوي إنذارات وانفجارات، ولا طلقات رصاص.