القدس لنا ..
مريم شملان
منذ سنوات مضت، كنا صغارا، فتيان تلك القرية وفتياتها، وقت لم يكن لدينا للمتعة والخروج من المنزل إلا مكان واحد نذهب إليه صباحاً ونعود منه الظهيرة؛ إنها المدرسة الكبيرة، وتلك المدرسة التي كانت تقع بمنتصف القرية، والصفوف التي بها تشكل حلقة مُستديرة، وتتوسط تلك المدرسة شجرة كبيرة تنافس سارية العلم طولاً، وكان في المدرسة مُعلم يتحدث إلينا وكأنه كان قد أتى من الزحام، ويُخبرنا ويغرس بذور حُب الوطن الكبير والعروبة في نفوسنا، ويَسرد لنا القصص والبطولات، كان يضع لنا خارطة كبيرة على “السبورة” ويُخبرنا بإن وطني هنا ويضع عليها نقطة، وكانت بيده مسطرة من الخشب لم أرَه يوماً يستخدمها لبطش تلميذ أو عِقاب تلميذة، نراه من ضمن المُعلمين الذين كنا نراهم، والغرباء الذين قدموا إلينا من بلادٍ بعيدة، وأضاؤوا لنا مُصباح العلم وأزاحوا عن أعيُننا الظلام،لم يكن مُعلمنا الأول ولم يكن هو لنا مربي الصف فقط.
كنا ننتظره أن يأتي؛ لدرس الرسم وبعض الانشطة، وشاءت الأقدار أن يكون المُعلم الذي سينهي لنا السنة الأولى، وسيكون معنا حتى نهاية العام الدراسي لإختفاء المعلمة التي كانت لنا وكنا نراها كل يوم، وقد عَلِمنا فيما بعد إنها أنجبت طفل ولن تكمل العام الدراسي الذي بقي النصف منه أو أقل من ذلك، ذهبت المعلمة التي كانت تُخبرنا إنها من الوطن العربي الكبير ووطني أيضاً فيه النيل الأزرق والنهر الجميل، تُصيبنا الدهشة والاستغراب من هكذا حديث لم نرَ في حياتنا سوى تلك الأودية الذي لا تزورنا إلا عندما يأتي إلينا المطر، والطريق الوحيد الذي ينصف القرية نصفين، والعابرات عليه من السيارات الصغيرة والكبيرة والتي لا نسمع إلا هدير محركاتها ليلاً من مسافة بعيدة، ولا نرى ذلك الطريق أو نلمسه إلا عندما نعدوا خلف الأمهات وتجّمعهن والأطمئنان على بعضهن البعض بعد ليلة شديدة المطر، أو تكون رياح عاتية كانت قد زارت القرية، أو توقفهن للحديث، والبعض يذهبن لرعي الأغنام في شتاءٍ بارد، أو أن تكون هناك وقفة بعضهن لوقت طويل لأخذ الأخبار عن حدث قد حصل في تلك القرية الكبيرة ذات المنازل المُتفرقة عن بعضها بعضا.
ومع بداية ظهور “أسطوانات الغاز”، والتي لم تعد النساء في حاجة إلى جمع الحطب وظهور الرفاهية نوعاً ما والراحة في تلك السنوات، وذات صباح أتى لنا ذلك المُعلم، وجعل من الصف قُسمين للتلاميذ يلتصقون بجهة، وللتلميذات الجهة الأخرى، وكان بالنصف ممشى طويل يفصل بيننا نحن التلاميذ، ويبدأ في تعليمنا اللغة الأم، اللغة العربية، ويمدح أوطاننا وتاريخنا ورِفعة ديننا الحنيف، أخبرنا بأن لنا وطنا جريح وأنه مطعون وينزف، ولنا في الموت من أجله جنات الخلود، ولنا في القدس صلاة
وسجود، ويُخبرنا أيضاً “وطني يا أحبابي أخذوه مني اليهود، وأخذوا بيتي وأحرقوا الزرع والأشجار وأغلقوا الأسواق ومنازل الأشراف وأكواخ الجدود…”، ويروي لنا؛ “أن قومي قتلوهم هناك، وذهبت أرواحهم إلى السماء”، ما أكثر الأرواح رحيلاً إلى السماء صعود، والزيتونة الخضراء الكريمة المُعطاء التي تنمو بكل مكانٍ في بلادي أصبحت تلك الأرض “خَوَاء” ولم يعد الزيتون بالخير يجود، ويُخبرنا؛ نحن لا نملك السلاح، الصغار منا والكبار بالحجارة نطرد الغاشم ونأتيه الهلاك، يُحدثنا عن يافا، عن حيفا، الناصرة، بيت لحم، وجنين، وطولكرم، وغزة، وعسقلان المجيدة، والقدس الصامد باقٍ أحرقوه، وأغلقوها عنا بيوت الله والمساجد والأسواق وأجراس الكنائس وضجيج الطرقات، فَلسطين كانت لقومي بلداً آمناً وسعيد، لا قناصة لا رصاص ولا أسلاك شائكة ولا مصائد، ومضينا عن بلادي عن فَلسطين الحبيبة واثقون وثابتون، ولنا في القدس انتصار رغم كيد الكائد”.
إنه أستاذ “صادق”، غَرس في قلوبنا حُب فَلسطين التي سكنت الروح، فقد كان يأتي لزيارة أهل القرية ذات المنازل القليلة المُتفرقة، ويتحدث معهم ونحن حوله بكل فخر كالدائرة، وكانوا الكبار رجالا ونساء يَروا فيه النجم الساطع والعارف بكل أحوال الدنيا، يتحدث والجميع في شوق لسماع أخبار فَلسطين، وهو يتحدث بحزن عن وطن خرج منها
قسراً وهو صغير، يتحدث عن الحرب والتدمير، وينصت الكبار والشباب المُتلهفين لسماع أخبار القدس التي هي قطعة من القلب. نعم، أستاذ “صادق” الذي تحدث كثيراً عن النصر وعن الحلم بالعودة إلى وطنه، وعن الخارطة التي ألصقها في عقولنا عن تلك الأرض التي وما زالت تُنجب الشُهداء؛ إنها “القدس”، الوطن الذي استقر في الخيال بجماله، والذي بات طريق النصر والتحرير بمشيئة الله قريبا.